الثورة السودانية التي أطاحت بالنّظام السّابق ، مثلها مثل كُلّ الثورات الشّعْبِيّة في العالم ، منذ أن عرِفَت الشّعُوب كيف تنْتَفِضُ على حُكّامِها ، تمُرُّ بمراحِل في مسِيرَة تطوّرها إلى أن يقضِيّ الله أمْرَاً كان مفْعُولاً ؛ لذلك نرى إن ما حدث بإستقالة السّيِّد رئيس مجلس الوزراء السّابق الدكتور عبدالله حمدوك ، هو أمْرٌ طبيعي ، وكذلك رُدُود الأفْعَال المُصَاحِبَة والناتجة لهذا القرار .
ما حدَث في إعتقادنا هو مرْحلَةٌ من مراحل الثّورة السُّودانِيّة التي بدأت مُنْذ أواخِر العام 2018 م بإحتِجَاجَاتٍ شَعبِيّة على أزمَات الخُبز والمحْرُوقَات والنّقُود ، بدأت في الولايات ثُمّ إمـتدّت إلى العاصمة ، وتِلْك كانت المرحلة التمْهْيديّة ، التي قادت إلى السّخَط الشّعْبي العام ، وإلى تحَالُف خصوم النِّظَام في الدّاخِل والخارج ، وأدّتْ من ثَمّ إلى إسقاط النِّظَام ، بعْدَ موقِف اللّجْنَة الأمْنِيّة وإنحياز قيادات القوات المُسلّحة والشّرطة والأمن ، إلى الحراك الشعبي ، لتنجَح الثّوْرَة وتجتاز تلك المرحلة بنجاح .
عقب إسقاط النِّظَام السّابق بدأت مرحلة جديدة ، هي ما تعارفنا عليه بإسم ( الفترة الإنتقالية الأولى) وفيها ينْتَشِي الثُّوَار ، ويرتفع صوت الرّغبات المُختلفة في مواجهة قوىً مناصِرة للنّظام القديم ، وغير مُعْترِفَة به ، بلْ رافِضَة لأي نظام بديل ، لتبدأ معركة جديدة تؤدي إلى إنهيار جزء من منظُومة الخِدْمَة العامة ، نتيجة الإقالات أو الإحالة إلى التقاعد ، وقد مرّت بلادنا ولازالتْ تمُرُّ بهذه المرحلة ، وهو ما يؤدي إلى عدم قدرة إدارة الدولة بالنسبة لحكومة الثورة ، لينشط خصومها في الترويج لفشلها الذي يقلّص عدد مؤيّديها ، وإلى تحييد بعض مناصريها وخروج البعض منهم عليها .
ولعدم التّوافُق بين مكوّنات حكومة الثورة عندما كانت تُعارِض النّظام ؛ ومع غياب دستور حاكم ، ووجود خصوم شرسين تكون هذه المرحلة من أخطر مراحِل الصّراع لتنشأ حكومة في الظِّل غير شرعيّة ، يصبح همّها الأوحد هو إفشال الحكومة القائمة التي قد تهْتَز بعْضُ أرْكَانِها فتؤدّي إلى فشل الأداء التنفيذي كُلّه أو بعضه ، وهو ما يقُود إلى حلّ الحكومة ، وتكوين حكومة جديدة لتنفيذ برنامج الثّورة والثوار ، وهذه مرحلة لم تتجاوزها حكومة الثورة الأولى ولا الثانية .
لم يكن قادة الثّورات في كل العالم من المُعتدلين ، لكنهم من أصحاب الأصوات العالية ، والحناجر العريضة ، و الأصابع التي تعزف على الألحان الشّعبية في آلات الطرب الثوري ، ولكن هذه المرحلة لن تستمر طويلاً ، إذ سرعان ما ينتبه الثوار وغيرهم إلى إن قضاياهم الأساسية لم يتم النظر فيها بأعينهم هم ، خاصة إذا ما تفاقمت الأزمات المرتبطة بالأحوال المعِيشيّة والأسْعَار والأقْوات وتجاوزت تكاليف الحياة الكريمة قدرات الطبقتين المتوسطة ، والفقيرة ، وهي مرحلةٌ تعيشها الثورة السودانية الآن ، وهي مرحلة خطيرة رُبّمَا أفرزت مجموعات متطرّفة من المعارضين ، أو الثوريين الأنقياء الذين يؤمنون بأن ثورتهم قد إستولى عليها الغير ، وأصبح الناطقون بإسمها ممن لا علاقة لهم بها ، وربما تظهر جماعات صاخبة منها من يرى أن منظومته العقائدية قد تضرّرت وأصبحت مهدّدة ، ومنها من يرى إن التسامح الديني في خطر ، أو إن الدين نفسه في خطر ، والبعض يرى أن منظُومة الحُكْم الجديدة ما هي إلا منْظُومة شبيهة للمنظُومة التي أطاحت بها الثورة ، وفي هذا كُله تهديد للسلام الإجتماعي والأمن القومي بكامله إذا لم يتم تدارك أسباب التدهور الإقتصادي و السياسي الذي يهدّد بقاء الدولة نفسها ، خاصةً مع تعالي وتصاعد الأصوات المُناديّة بتصْفِية المؤسّسات الأمنية تحت مسمى إعادة الهيكلة .. وهنا مكمن الخطر .