ما ان اعلن الجيش حل حكومة المحاصصات المشتركة .. بينه وبِضع من الاحزاب .. التي تفتقر للكفاءة والبرنامج .. لتحل محلها حكومة كفاءات مدنية مؤهلة ذات برنامج تمثل الطيف الشعبي السوداني وتنهي سيطرة احزاب الاقلية والانتهازية .. حتى جنَّ جنون نشطاء البلاد الباردة والليبراليين الجدد وانتهازيِّ الداخل فطَفِقوا يتَبارَون فيما بينهم هرولة بين عتبات ابواب السفارات ودهاليز المنظمات بُغية حثها للتدخل لنفْخ الروح في جثة حكومتهم التي ذبحها العسكر ..
وبالفعل استجابت لهم دول الغرب والمنظمات التي تسمي نفسها حامية للحريات … فقد وجدت في طيشهم ضالتها … واصدرت بيانات الادانة وقررات التدخلات السافرة في الشأن الداخلي السيادي السوداني .. وبدأ سيل وفودها يتدفق نحو الخرطوم … حتى ضاقت بهم فنادقها .. كل يبحث عن موطئ قدم له وعن عملاء جُدد وعن عواهر السياسة في المسرح السوداني الجديد … فالكل يبحث عن ليلاه في ليالي الدعارة السياسية ..
واستُبِيحت الخرطوم والسيادة السودانية بصورة واضحة وفاضحة لم تحدث من قبل حتى في ظل اضعف الحكومات .. وتحولت الخرطوم الان الى اكبر بورصة للنشاط الاستخباراتي في المنطقة .. وسيكون لذلك ما بعده بكل تأكيد .. وكان يجب ان تتعامل السلطة القائمة مع ما يحدث بحزم ومسؤولية وطنية خالصة … وان تضع له حداً بسرعة تشكيل المؤسسات الدستورية .. كيفما اتفق .. حتى ينفض سامر هؤلاء المُخبرون الأجانب من قلب الخرطوم ..
وللمفارقة ان كل هؤلاء الذين يُسمَّونَ بالمجتمع الدولي ومنظماتهم يقومون بترديد نفس السايمفونية التي عزفها الجنرال البرهان في بيان حل الحكومة وهي: تكوين حكومة مدنية من كفاءات مستقلين ..
ملأ المجتمع الدولي الدنيا ضجيجا .. ولا شئ جوهري جديد في طرحهم يخالف طرح العسكر .. !! .. فهم يدركون ان قرار العسكر هو النافذ فشرعوا في وضّع بعض المكياج عليه لترضية اولئك الذين لا يعرفون لماذا خرجوا للشارع .. وما اكثرهم .. والان يعملون في تعميق الشُقة بين وجهات نظر المكونات السياسية والمدنية المختلفة .. بُغية الوصول للفوضى .. الهدف المنشود ..
وليس غريبا ولا مستغربا ان تعلو اصوات هذه الدول الغربية والمنظمات .. والتي احتكرت لنفسها مسمى المجتمع الدولي .. ضد كل من يهدد مصالحها الاستعمارية في بلدان العالم الثالث .. وتظهر نفسها .. نفاقاً .. وكأنها حامية للشعوب وتطلعاته للحرية والرفاهية .. وهي في الحقيقة سبب ويلات ودمار معظم الشعوب الفقيرة حول العالم ..
لو اخذنا نماذجا لبعض الشعوب التي تَدَخَّل المجتمع الدولي لمساعدتها باسم الحرية وحقوق الانسان سنجد مفارقات مؤلمة بين طرح المجتمع الدولي المغلف بزي الحرية والديمقراطية من اجل الشعوب وحقيقة النتائج الفعلية لتدخُله من دمار وتشريد وإفقار للشعوب ..
تدخَل المجتمع الدولي لمساعدة الشعب الايراني وحاصر ايران اقتصاديا لاكثر من ربع قرن ..!! فاذاق شعبه الفقر والخوف والقهر .. لم تضررت النخبة الحاكمة ونظام الملالي من حصارهم هذا .. ولكن الشعب هو من تضرر !! ..
في كوريا الشمالية رغم حصار المجتمع الدولي لها لعقود من الزمان الا ان النظام الحاكم ما زال منعم بالخير والامان .. مسيطر على زمام الامر ومستمتع بثروات شعبه .. والشعب يعيش الفاقة والخوف في اسوأ ظروف القهر الانساني التي يمكن ان بتخيلها المرء .. والمجتمع الدولي ادار عنهم وجهه .. ولم ولن يقدم لهم شيئا غير المزيد من الحصار ..
وسوريا ليست ببعيدة عنا .. وكيف ان ما يسمى بالمجتمع الدولي فرض حصار على النظام السوري .. كما يدعي .. ولكنه في الواقع حاصر الشعب السوري لتشريده وتفريغ سوريا من نصف شعبها وتحويل سوريا الي دولة فاشلة منقسمة على ذاتها .. وبقيَّ نظام البعث في سوريا على بطشه بشعبه .. والشعب هو من دفع الثمن .. بغباء الناشطين السورين الذين بحثوا عن الحرية في احضان المجتمع الدولي ..
الشعبين اليمني والليبي الذين رهنوا سيادتهم للمجتمع الدولي .. ظنّوا ان الجنة تحت أقدامهم .. وسمحوا له بالتدخل في شأنهم الداخلي فتبنى قضيتهم ودفعهم الى الحرب دفعا .. ودفع لهم .. للحرب .. بسخاء ثم تركهم في منتصف الطريق يندبون خيانتهم لاوطانهم .. والنتيجة هي التشريد والدمار وخراب دولهم من بعد أمن وعز ..
والعراق .. حاله اليوم يحكي عن نفسه وعن ضحالة فكر نُخبه الذين دخلوا بغداد فاتحين .. على دبابات المجتمع الدولي لجلب الحرية والكرامة وحقوق الانسان لشعبهم ..
فنزويلا .. الدولة النفطية الكبرى يعيش الان معظم شعبها الفاقة والمرض نتيجة لعمالة وخيانة بعض بنيها باستنجادِهم بالمجتمع الدولي الذي حاصرهم ..
ولما كانت العِبرة عادة تُأخذ بالنتائج .. فان كل الحصارات التي يفرضها المجتمع الدولي على الدول المقصود بها حصار الشعوب وليس حصار النخبة الحاكمة .. ويستخدم لذلك حقوق الانسان والديمقراطية كحصان طروادة .. فالمجتمع الدولي مجتمع مخادع منافق يظهر خلاف ما يبطن ..
ان كان المجتمع الدولي حريص على حقوق الإنسان فلماذا يصمت هذا الصمت الرهيب حيال مأساة شعب جمهورية افريقيا الوسطى التي ترزح الان تحت الاحتلال والاستغلال غير المعلن من فرنسا وروسيا منذ فترة طويلة .. ويباد شعبها المسلم … وحتى الاعلام صامت عنها ..
واين المجتمع الدولي الحنين على الشعوب عندما عانى السودان من شح الوقود .. وشح الخبز وشبح المجاعة .. وعندما كان النساء والاطفال يبيتون لياليهم الباردة في صفوف المخابز .. واين المجتمع الدولي عندما اصبح مرتب العامل والموظف الصغير لا يكفي تكلفة المواصلات ..
المجتمع الدولي .. او المستعمر الجديد ..لا تعنيه حرية الشعب السوداني ولا كرامته او رفاهيته .. يعنيه فقط مصالحه الذاتية في السودان .. جاء ليحمي من اجلها عملاءه من الانتهازيين والليبراليين الجدد .. الذين اظهروا استعدادا ان يبيعوا سيادة وطنهم من اجل دراهم من المال النجس .. اولئك الناشطون الذين بدأوا في مناشدة الغرب والمنظمات بفرض العقوبات الاقتصادية على السودان بمجرد سماعهم بيان البرهان في الخامس والعشرين من اكتوبر المنصرم ..
ان ناشدوا الغرب اليوم بحصار السودان اقتصاديا فقد ناشدوه من قبل .. في عهد الكيزان .. وقد تم الحصار .. ولم يتضرر نظام البشير من تلك العقوبات واستمر يحكمنا لثلاثين سنة .. وتضرر الشعب وعانى ما عانى ودفع ثمن تلك التصرفات الهوجاء لثلاثة عقود ..
كثير من الناشطين في البلاد الباردة لا تهمهم معاناة الشعب السوداني في الداخل في شئ بقدر ما يهمهم الظهور الاعلامي والبروباغاندا في تقديم انفسهم على انهم مجتمع متحضر ومتميّّز .. على حساب سيادة وطنهم .. وفات عليهم ان المجتمع المتحضر المتميِّز لا يعمل ضد وطنه واهله مهما تَجبَّر عليهم سلطانه .. المجتمع المتحضر لا يركض نحو برلمانات دول اجنبية او يطرق ابواب سفاراتها في بلده مستجديا منهم حصار بلده واهله .. انما يفعل ذلك الساقطون الحثالة من المجتمع .. المجتمع المتحضر يكون عفيفا نظيفا لا يخون وطنه ولا يطعن شعبه من وراء ظهره ..
والمجتمع الدولي لا يستطيع ولا يجرؤ على حصار شعب الا من خلال سياسين اغبياء .. او ناشطين عملاء لا يترددون عن بيع اوطانهم وشعوبهم من اجل حِفنة من عَرَض الدنيا قليل .. وما اكثرهم عندنا ..
انني لا ادعو لمقاطعة او مواجهة المجتمع الدولي .. فما زلنا صغار على ذلك .. بقدر ما ادعو للتعامل معه بمراوغة سياسية ذكية لا تحقق له اهدافه .. ادعو لعدم الرضوخ له او السماح له .. بحزم .. بالتدخل السافر في شأننا السيادي ..
ادعو شعبي الا تبحثوا عن الحرية والنمو والرخاء من ايدي المجتمع الدولي وعملائهم .. لن تصلوها مطلقا .. فهي كالسراب .. بل ابحثوا عنها في ارضكم .. وبجهدكم .. ومن ايدي ابناءكم الوطنيين الخُلص الذين لديهم برامج ورؤى ثاقبة .. فلن يغيب ظنكم ابداً ..
واتمنى ان يأخد الشعب السوداني العبر من معاناة الشعوب التي تَدَخل المجتمع الدولي في شأن سيادتها .. فنحن لسنا بإستثناء .. ولا شعب الله المختار .. ولسنا بمعصومين من قدر الله — وانه سيصيبنا ما أصابهم ان سرنا في اثرهم .. وعلينا ان نتذكَّر دائما: ان المجتمع الدولي اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة أهلها اذلة.
د. محمد عثمان عبدالله