إن ثورة ديسمبر المجيدة لم تكن مجرد إنتفاضة ضد سلطةٍ دكتاتوريةٍ لإسقاطها من سدة الحكم، بل لابد من تعريف الثورة بالمعنى الذي يعكس المضمون الحقيقي؛ على أنه فعل تراكمي يستمر بتتابع الأحداث؛
في إنقلاب على جملة من المفاهيم والمضامين والتفاصيل التي قد تكون ملموسة على أرض الواقع ومنها ما هو معنوي في وعي الناس.
ولأن المنعرج الذي وصلت له هذه الدولة؛ يُعتبر إحدى المحكات الأكثر صعوبة من جميع النواحي، فمن الطبيعي أن تكون هذه الثورة مختلفة عن الثورات السابقة التي كُتِبت في تاريخ السودان الحديث.
إذ أنها منذ اندلاعها في ديسمبر 2018؛ وحتى الآن، فتحت كل الأبواب لإجراء جُملة من المراجعات في كافة المستويات، الأمر الذي يحتم أن يكون التغيير في هذه المرة على نطاقٍ واسع إقتصادياً واجتماعياً ما يعني أنه سيلقي بظلاله على المستوى السياسي.
لا تقدم من الاستقلال
فالمعلوم أن الساحة السياسية مليئة بالمعضلات والمشاكل المعقدة التي تحضر فيها العديد من التشابكات الإجتماعية التي ألقت بظلالها على نظام الحكم في السودان وأدت به إلى جملة من المشاكل؛ لم ترث منها هذه الدولة سوى التراجع منذ الإستقلال وحتى الآن.
وهذا الأمر يحتم إستمرارية الثورة. ليس بشكلها الأول الذي أخذ طابع الإنتفاضة ضد النظام الدكتاتوري، ولكن بجملة من الأشكال التي تؤثر بالضرورة على الوعي العام التي لابد من أن تستوعب تحديات هذه المرحلة من باب المسؤولية تجاه التغيير.
وفي هذه النقطة تحديداً لابد من أن تكون الشريحة المعنية بهذا الأمر هي الشريحة التي كانت فاعلة وبقوة في الإنتفاضة ضد النظام البائد. فهذه الشريحة لها مزاياها وتمظهراتها المختلفة عن الأجيال السابقة التي ثارت ضد الدكتاتوريات السابقة. ولفهم هذا الجيل؛
كان لابد من العودة قليلاً إلى الوراء؛ تحديداً في آخر ثلاثين عاماً؛ وهي الفترة التي حكم فيها نظام عمر البشير البائد.
الانقلاب
وقتما قامت الحركة الإسلامية بالإنقلاب العسكري بقيادة عمر البشير، كانت لهذه الدولة مشاكلها المتمثلة في التعقيدات الإجتماعية نتائج الشتات الجغرافي بين الإثنيات وتفاوت الإمتيازات الإجتماعية الأمر الذي أثر سلباً على الوعي العام لدى هذا الشعب؛
رغم أنه قام بانتفاضتين أسقطتا دكتاتورية إبراهيم عبود ودكتاتورية جعفر نميري.
لكن الحال كان أفضل مقارنةً بما حدث في عهد النظام البائد، فإلى حدٍ ما كان الإرث النضالي والمعرفة التي تمتلكها شريحة طلاب الجامعات والخريجين والمهنيين كافياً لحضور المقاومة في وجه النظام في تسعينيات القرن الماضي، العقد الأول الذي كان فيه النظام البشير أشد بطشاً ووحشية في القمع.
لم يكن ما فعله النظام البائد في حق شباب ذلك العقد من الزمان كافياً لتثبيت أركانه على سدة الحكم، فلقد كان النظام البائد يعمل بجد على زيادة تشويه الوعي العام بوسائل الإعلام التقليدية، عندما أقام عزلاً على الشعب مع سبق الإصرار والترصد،
لتغبيش الوعي العام بعقيدة فاسدة؛ تاجر فيها بالدين الإسلامي، على غرار ذلك التسويق لحرب الجنوب على أنه جهاد في سبيل الله.
وأكثر من ذلك؛ ومع ممارساته القمعية المتمثلة في البطش والتنكيل على المعارضين للنظام في بيوت الأشباح؛ وخطفه للشباب اليافع والإلقاء به في محرقة حرب الجنوب، والبطش بالشباب في معسكرات الجيش،
دمّرت سلطة النظام البائد السلم التعليمي تدميراً جعل من الجيل اليافع الذي تفتح للدنيا في عهدهم خانعاً وخاضعاً له بالكامل.
فنظام الثمانية أعوام في مرحلة الأساس؛ لم يكن إلا بقصد غرز عقيدة الخنوع في الجيل نفسه، بوضع التلاميذ بفارق شاسع داخل ساحة مدرسية واحدة. وكل من مر بهذه المرحلة في العهد البائد يتذكر كيف كانت ممارسات البطش حاضرة في تلك الساحة من التلاميذ الأكبر سناً تجاه من هم أصغر سناً.
برع نظام العهد البائد في كيفية عزل هذا الجيل عن كل أدوات الوعي والنضج المطلوب لفهم متطلبات الحياة كما يجب، وتلك المتطلبات التي تجعل الفرد على وعي كامل بتأثيره على الدولة وتأثّره بها،
ومع القمع الذي مورس في حق الأجيال السابقة لجيل “الأساس” تم قطع رابط الوصل بين الأجيال السابقة واللاحقة والتي كانت من المفترض أن يتم بينهم تداول الإرث المعرفي الكافي المناهضة تلك الدكتاتورية.
الانتهاكات
وبجملة هذه الممارسات والسياسات التي انتهجها النظام الدكتاتوري السابق، تم تفريغ الجامعات السودانية من الأجيال السابقة قبل صعود النظام البائد، ودخول الأجيال الخانعة التي تربت في كنف السلطة الدكتاتورية منذ مرحلة الأساس.
ولقد كان النظام البائد محظوظاً للغاية في العقد الثاني من عمره على رأس السلطة. فوقتما دخل جيل الأساس الجامعات السودانية خانعاً،
شهدت الدولة بداية الإستقرار من حرب الجنوب وتقرر فتح ملف السلام، وهو الملف الذي جعل الدولة في حالة الإستقرار في العقد الثاني من عمر النظام البائد.
وفي ذلك الوقت، إكتملت أركان التمكين للنظام البائد، ليس على مستوى المؤسسات والقطاعات الحكومية والخاصة فحسب،
بل حتى على مستوى الجامعات السودانية، باستلامها لكل أركان الجامعات بالاتحادات وبوحداتها الأمنية والجهادية، في الوقت الذي سوّقت فيه بامتياز للجيل الخانع لفكرة سوء الساحة السياسية وممارساتها وأنها الخيار الأفضل بين كل الأحزاب.
وبذلك تم عزل جيل الأساس عن الوعي السياسي الذي كان من المفترض أن يكون حاضراً للسواد الأعظم من هذا الجيل، على الأقل لفهم الدولة وليفهم كل كادر بشري دوره في هذه الدولة مع سير الأحداث على كافة المستويات داخلياً وخارجياً.
ولكن؛ ما الذي كان وبالاً على النظام البائد وأدى لسقوطه في نهاية الأمر؟
يمكن القول بأن حتمية التطور كانت هي الوبال على النظام البائد. فاقتحام التكنولوجيا ودخول عالم الإتصالات المتطور الذي جعل العالم قرية صغيرة، أخرج الوعي العام من صندوق الإعلام التقليدي الذي كان يتحكم فيه النظام البائد؛
إلى الساحة المفتوحة وهي ساحة التكنولوجيا؛ والتي تطورت بفعل مواقع التواصل الإجتماعي.
لكن ثمة عوامل أخرى أدت إلى حدوث التراكم الذي صنع ثورة ديسمبر المجيدة.
أولها:
التغيير الذي طرأ على المستوى السكاني، أثر بطريقة مباشرة بفعل زيادة الكثافة السكانية، إلى حضور جُل المكونيات الإثنية إلى العاصمة بسبب ظروف الحروب وتدني مستوى الخدمات والبنى التحتية في معظم ولايات السودان.
ثانيها:
وامتداداً للتغيير السكاني، مارس النظام شكلاً من أشكال التجارة في التعليم العالي عندما قام بزيادة كبيرة للغاية على مستوى المقاعد في العديد من الجامعات فاستقبلت كمّاً مهولاً من الطلاب من مختلف المكونات الإثنية الحاضرة في العاصمة.
وبذلك أصبحت الجامعات السودانية هي بمثابة حاضنة كبرى إحتوت بداخلها إنفتاح مختلف هذه المكونات على بعضها البعض، الأمر الذي أدت شيئاً فشيئاً لخلق وعي خاص ومختلف للجيل الذي تربى في كنف النظام البائد.
ثالثها:
خلق الحواضن البديلة لفترة ما بعد الجامعات، ألا وهي حواضن الأعمال التطوعية التي شهدت إقبال كبير لنفس الجيل، والذي وجد فراغاً كبيراً نتيجة لضيق الفرص في سوق العمل الذي احتكره النظام البائد لتنظيمه الإسلامي على أساس الولاء وليس الكفاءة.
هذه الحواضن البديلة هي الأخرى ساهمت في زيادة وتيرة الوعي العام بمتطلبات تلك المرحلة، متمثلة في زيادة الدافع للانتفاض في وجه النظام البائد.
هذه العوامل؛ وعلى مدى العقد الأخير من عمر النظام البائد، ساهمت في زيادة تراكم الوعي الذي ساهم في إسقاط النظام البائد. ظهرت دوافع إسقاط النظام لأول مرة في عام 2011؛
وإن كانت المحاولة خجولة، إلا أنها ساهمت في زيادة وتيرة الحراكات في 2012 و2013 و2016 وبداية 2018 ومن ثم ديسمبر 2018 الذي كان هو الحراك الأكبر والأقوى في وجه النظام البائد.
كل هذه التفاصيل تثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن الوعي العام للشريحة التي نالت تعليمها في عهد النظام البائد؛ ساهم في إسقاط البشير وزبانيته. وهو وعي يمكن له إستيعاب تحدياً هذه المرحلة والتحديات القادمة ومسار المستقبل.
إذ أن القضية الإجتماعية التي كانت هي الهاجس الأكبر؛ تجسدت رؤاها الجديدة عندما ضجت شوارع الخرطوم في وجه النظام البائد بهتافات على شاكلة “يا عنصري ومغرور كل البلد دارفور”،
وهو الهتاف الذي بيّن مدى إستيعاب الجيل الثائر لمشكلة دارفور، وبذلك يمكن لهذا الجيل فهم المشاكل الإجتماعية برمتها والتي ألقت بظلالها على الساحة السياسية، وبالتالي يمكن له فهم متطلبات المرحلة الجديدة؛ والمتمثلة في الحلول الجذرية لمشاكل السودان القديم.
وقت الساحة السياسية
لكن؛ ولتكتمل الرؤيا لهذا الجيل الثائر في وجه النظام البائد، فلابد له نزع صورته السابقة عن الساحة السياسية والتي التي تشكلت في عهد النظام البائد. ونزع الصورة السابقة عن الساحة السياسية بمعنى الإبتعاد عن الرفض والسخط تجاه الإحزاب السياسية السودانية،
والإنخراط في المعرفة التي تمكّنه من فهم الساحة السياسية السودانية ومشاكلها المعقدة، وتبني تلك الرؤى الجديدة التي تستوعب التغيير الذي طرأ والتي من شأنها أن تعالج المشاكل الاجتماعية
وتخلق أنظمة جديدة تضع جميع المكونات الإجتماعي في بوتقة واحدة تحمل في داخلها عقداً إجتماعاً جديداً ينتهي فيه مشاكل الصراعات الإجتماعية على كافة المستويات؛ حتى في الساحة السياسية نفسها.
كل ذلك يعني ضرورة أن يستوعب الشباب الحالي بضرورة إنخراطهم في الساحة السياسية بكل قوة، وضرورة تبني الرؤي المتقدمة التي من شأنها أن تخلق السودان الجديد الذي يحلم به الجميع في كل أطراف السودان من شماله إلى جنوبه ومن شرقه إلى غربه، فالجلوس بعيداً والسخط تجاه الأحزاب السياسية فقط ليس بالحل المُجدي.
كما أن الإكتفاء بدور اللجان الخدمية سيكرس طاقات الشباب في الحصر فقط على الخدمات بشكل تنفيذي، دونما أي وعي لما يحدث في الساحة السياسية السودانية.
وزيادة كتلة الوعي الشبابي على المستوى السياسي هو الأمر الأكثر أهمية في ظل الظرف الراهن، لأن الجميع يعلم أن الثورة لابد لها أن تستمر لخلق التغيير على الساحة السياسية نفسها.