قبيل نهاية أبريل المنصرم، حط وفد من مبعوثين دوليين رحاله في السودان، وقد ضم الوفد ممثلين لكل من الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وألمانيا وفرنسا والنرويج والإتحاد الأوروبي، ووفقاً لما جاء في أكثر من وسيلة إعلامية فقد كان الغرض من الزيارة “بحث الجهود المبذولة لبدء الحوار بين الأطراف السودانية بتسهيلٍ من الآلية الثلاثية المتمثلة في الأمم المتحدة والإتحاد الأفريقي والهيئة الحكومية للتنمية يشرق أفريقيا”. وبطبيعة الحال فإن ذلك يأتي في أعقاب فض الشراكة بين المجموعة العسكرية التي استولت على السلطة في أبريل 2019 وبين المجموعة المدنية التي جيّرت الحراك الشعبي حينها لصالحها، وهي مجموعة الأربعة كما سُميت لاحقاً.
في نهاية زيارتهم، أصدر المبعوثون بياناً عرضوا فيه ما قاموا به من جهد وما يرونه مما ينبغي أن يكون عليه الحال في السودان، وقد لقي البيان ردود فعل متباينة بين مؤيد بشدة ومعترض بشدة، ولست هنا بصدد تفصيل ما جاء فيه، لكني رأيت أن أعلق على أهم فقرتين وردتا في البيان – كما بدتا لي – وهما الفقرة التي تتحدث عن أن (الدعم المالي الدولي للسودان، بما في ذلك الإعفاء من الديون، لن يتحقق إلا بتأليف حكومة مدنية ذات مصداقية)، وتلك التي تتحدث عن (القلق البالغ من إعادة تعيين منسوبي النظام السابق) في الخدمة العامة، ثم أتطرق للسياق الذي وردتا فيه !!
(2)
عبارة واحدة هي الأهم في الفقرة الأولى وهي عبارة (ذات مصداقية)، والأسئلة البديهية هنا هي: من الذي يحدد المصداقية هنا، هل هي ذات مجموعة المبعوثين ومن يمثلون، أم هي الأطراف السودانية، وما هي المعايير التي بموجبها تقاس هذه المصداقية لكي نعرف أنه تم استيفائها من عدمه؟ والإجابة بالنسبة لي شديدة الوضوح، فمجموعة المبعوثين الغربيين ووزارات خارجية دولهم هم من يحددون أن تلك الحكومة ذات مصداقية أم لا، والمعيار في ذلك هو مدى استيعابها لأصحاب التوجه الليبرالي الذين تمت الإطاحة بهم، فهؤلاء هم الذين استثمرت فيهم تلك الدول على مدى ثلاثة عقود، وترغب في أن يعودوا للسلطة ليكملوا مشروع “إعادة التأسيس” الذي بدأ في عهد حمدوك.
والحقيقة، حين تضع قدمك في حذاء هؤلاء الغربيين، كما يقول مثلهم، تستطيع أن ترى الأمر بوضوح أكثر؛ فلنحو ثلاثة عقود، استثمرت الدول والمنظمات الغربية التي أرسلت مبعوثيها قبل أيام – وإن بدرجات متفاوتة – في تفكيك قبضة نظام الإنقاذ على السلطة أو إسقاطه، ولعلي لست بحاجة لإيراد شواهد من عندي على ذلك بل تكفي إحالة المهتمين على ما ورد في شهادات ومذكرات وسطاء ووزراء ومبعوثي وناشطي تلك الدول ممن انخرطوا في قضيتي الحرب والسلام في جنوب السودان وفي دارفور، وأشير هنا فقط لمذكرات هيلدا جونسون وهيلاري كلنتون وكتابات جولي فلينت و اليكس دي وال.
(3)
كانت تلك الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، ترى في نظام الإنقاذ ذي التوجه الإسلامي والقرار الوطني المستقل، مهدداً لمصالحها وإرثها الاستعماري أو التبشيري في السودان، ولهذا فقد دعمت معارضيه من لدن الحركة الشعبية والتجمع الوطني الديمقراطي إلى زمن “الحرية والتغيير” ، بالمال والسلاح والحصار الدبلوماسي والإقتصادي ومختلف أشكال الضغوط على البلدان التي أقامت علاقات إقتصادية معه، إلى أن نجحت في إسقاطه، مستفيدة في ذلك من أخطاء النظام وصراعاته الداخلية.
والحال كذلك، ليس من المنطقي أن نتصور أن هذه الدول ستسمح لكل ذلك “الاستثمار” سواء في إسقاط النظام السابق أو في تجنيد موالين لها، أن يذهب أدراج الرياح، وفي يدها كل أدوات الضغط السياسي التي راكمتها سواء على النظام السابق أو على حكام الفترة الإنتقالية الحالية، بل على العكس فهذه هي مرحلة “جني الأرباح” عن طريق وضع معايير ما ينبغي أن تكون عليه الحال. لكن مشكلة هذه الدول هي أنها لا تريد أن تواكب عصر الشفافية الذي طالما حدثتنا عنه، وتقول لنا – باعتبارها صاحبة النصيب الأكبر في شراكة إسقاط النظام – أن أسهمها تؤهلها أن تفرض علينا شروطها !!
(4)
تُفضل مجموعة الدول الغربية التي أرسلت مبعوثيها للسودان – وهي صاحبة النصيب الأكبر من حقوق التصويت في صندوق النقد الدولي – ما نسميه في السودان ب “اللولوة”، أي الإلتفاف حول الأمر أو الهدف بدل الإتيان إليه بشكل مباشر، فهي تربط تقديم الدعم السياسي والإقتصادي للفترة الانتقالية برؤيتها هي لمستقبل السودان، وتغطي ذلك بالحديث عن “حكومة مدنية ذات مصداقية” تقود ما تبقى من الفترة الإنتقالية وتتحكم في مخرجاتها، وعن دعم الجهود الثلاثية التي تقوم بها بعثة الأمم المتحدة لدعم الإنتقال والاتحاد الافريقي ومنظمة الإيغاد لترميم الشروخ التي أصابت شراكة أطراف السلطة التي كانت قائمة قبل 25 أكتوبر 2021 أو تأسيس شراكة بصيغة جديدة.
وتزيدنا هذه الدول ، عبر بيان مبعوثيها، كيل بعير، فتعبّر عن قلقها البالغ من صدور أحكام قضائية أعادت مفصولين من الخدمة العامة لمواقعهم، أي والله، والمثير للاستغراب، هو أن هذا يتم بحجة دعم شعارات الحرية والعدالة التي رفعها السودانيون وتحت مسمى دعم “الانتقال الديمقراطي” و “تطلع السودانيين للديمقراطية”، وكأن هذه الدول الغربية تريدنا أن نصدق أن شعب السودان هو الوحيد من بين شعوب المنطقة الذي تنقصه الديمقراطية، وأن دول جوار السودان، وفي كل الاتجاهات، تسبح في نعيم التعددية والديمقراطية والتداول السلمي للسلطة، ولهذا فهي – تلك الشعوب والدول – لا تتعرض لضغوطات كتلك التي يتعرض لها السودان.
ما يتعرض له السودان هو في حقيقته لا يعدو أن يكون نوعاً من أنواع فرض الوصاية الغربية بوسائل استعمارية جديدة على شعب يستحق بالفعل الديمقراطية، لكنها ديمقراطية يستنبتها هو في تربته ويسقيها من نيله ويرعاها وفق قيمه وثقافته وأعرافه الحميدة، لا أن تكون مفروضة عليه بعد حشوها بقيم الليبرالية الجديدة من طمس للهوية الإسلامية وتشجيع الشذوذ والمثلية مما تعتبره حقوقاً للإنسان، فلطالما أثبتت الأيام أن المعايير الغربية لتلك الحقوق كالحرية و الاستقلال معايير مزدوجة، وأن أساليبها لفرضها ملتوية وملوثة بكثير من أساليب الاستهبال السياسي!!