د . ياسر يوسف إبراهيم
دوائر الخارج وأعوان الداخل
( حاميها حراميها ) هو الإسم الذي إختاره مترجم تقرير حديث صدر عن مركز الدراسات الدفاعية المتقدمة ومقره واشنطن ، ويتناول التقرير ما يزعم معدوه أن السيطرة العسكرية علي الإقتصاد السوداني هي السبب المباشر في عرقلة التحول الديمقراطي ، ويصف الفاعلين الرئيسيين في هذه السيطرة بأنهم ( تكتل إحتكاري قمعي من الجهات الفاعلة التابعة للدولة ، وهو يشكل دولة عميقة داخل السودان ) ..
ويقوم منهج كتابة التقرير علي تبني رؤية قوي الحرية والتغيير المجلس المركزي القائمة على وجود صراع بين من يرغبون في التحول الديمقراطي ومن يعارضون هذا التحول ، وبالتالي فإنه أي التقرير حاول بقدر الإمكان حشد الأدلة التي تدين المؤسسة العسكرية والأمنية في السودان ، ومن ثم العمل على فرض العقوبات الذكية عليها ، وامتدح التقرير ما أسماه بالتقدم الذي أحرزته الحكومة الإنتقالية السابقة وخاصة في مجال حقوق الإنسان والعدالة ، حيث ورد في التقرير ما يلي ( قاد وزير العدل نصرالدين عبدالباري حملة إصلاح قانوني واسعة النطاق تدعم برنامج عمل يستند إلي حقوق الإنسان ، وشهدت إلغاء عقوبات الإرتداد عن الدين ومنع تشويه الأعضاء التناسلية للإناث ) !!!
حدد التقرير 408 مؤسسة زعم خضوعها للدولة في قطاعات متنوعة مثل الزراعة والمصارف والصناعة الحربية ، وما يثير الإستغراب هنا أن التقرير أورد بيانات هذه المؤسسات من تواريخ تسجيلها وملاكها وبعض أنشطتها تحت عنوان ( مضبوطات وزارة المالية ) وهو العنوان الذي يذكر بالضجة التي أثيرت في إكتوبر من العام 2020 إثر الإعلان عن فقدان نسخة من قبل لجنة إزالة التمكين من كل بيانات وحسابات وزارة المالية الإتحادية والتي تشمل معلومات غاية في الأهمية للأمن القومي السوداني بعد إستلامها من وزارة المالية، ولم يذكر التقرير بالتأكيد أي علاقة بين ( مضبوطات وزارة المالية ) وهذه القضية التي طواها النسيان دون تحقيق يكشف الجناة أو إجراء يطمئن المشفقين …
وركز التقرير على بنك أمدرمان الوطني وشركة زادنا وبنك الخليج معتبرا إياها المؤسسات الأهم والتي ينبغي أن تركز عليها العقوبات القادمة لتفكيك سيطرة المؤسسة العسكرية على المشهد العام ، ودعا التقرير في توصياته إلي تعزيز الدعم للمنظمات المدنية والصحافيين في السودان وقبل ذلك بتوخي الحيطة والحذر فيما يتعلق بالتعامل مع الشركات السودانية بجانب فرض عقوبات علي القوات المسلحة والدعم السريع من قبل الولايات المتحدة ، الإتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة..
إن أي قراءة لهذا التقرير معزولة عن إستيعاب الرؤية الكلية في إطار إستهداف السودان المستمر لزمن طويل هي قراءة قاصرة وغير واقعية ، لأن النظر المتفحص في توصيات التقرير تعكس بشكل جلي إتجاه بعض الدوائر المؤثرة في الغرب مؤخرا ببناء سردية قائمة علي أن المؤسسة العسكرية السودانية هي حجر العثرة أمام ( الإنتقال الديمقراطي ) وبالتالي يجب تفكيكها وإعادة هيكلتها ، ومنذ أن نشر السيناتور كريس كونز مقاله الشهير في مجلة فورين بوليسي بعد قرارات الخامس والعشرين من إكتوبر وحدد فيه ملامح التحرك المقبل تجاه السودان مقترحا فرض عقوبات ذكية تطال القيادات العسكرية والمنظومة الصناعية والإقتصادية للجيش ظلت الآلة الغربية في مراكز الدراسات والإعلام وفي أوساط الناشطين تتبني هذه السردية وتتعامل مع ما ورد في ذلك المقال بإعتباره الإنجيل الذي يوجه مجري السياسة تجاه السودان ، وبالتأكيد فإن هذه الحملة لم تأت من فراغ ، ولكنها تتغذي من فئتين رئيسيتين الأولي هي ما تبقي من ميراث الدوائر التي عملت طويلا ضد السودان خلال النظام السابق من منظمات ومشرعين وصحفيين ، والفئة الثانية للأسف الشديد هي بعض من أبناء السودان الذين ارتضوا لأنفسهم أن يكونوا إمتدادا داخليا للفئة الأولي يتولون أمر تنفيذ مخططاتها ويمدونها بالمعلومات اللازمة عن بلادهم ، ويساعدونها في إضعاف عناصر التماسك الوطني المادية والمعنوية ، ولم يعد الأمر سرا بل بلغ من تفشيه وإنتشاره أن عضو مجلس السيادة القائد مالك عقار رئيس الحركة الشعبية لتحرير السودان صرح مرارا بأن هناك مجموعات ضخمة من الناشطين تتواصل مع السفارات وتقدم الشكاوي ضد بلادها للأجانب ..
والنظر إلي النتائج التي بين أيدينا والواقع الماثل يقودنا إلي التوصل إلي أن تبني هذه الرؤية الجديدة المتعلقة بالتحول الديمقراطي وإتخاذها سببا لإضعاف المؤسسة العسكرية السودانية ليست إلا فصلا من فصول حرب مستمرة تبحث في كل مرة عن مبرر لتنفيذ مخططاتها ، ولن تعجزها الحيل أن تبسط لبعض السودانيين حلو الأماني وجميل الشعارات من أجل ضمان توفير المقبولية لمشروعها الذي تتلخص مظاهره في الآتي :-
- إشغال السودان بالحروب التي لا تنتهي ، وبحالة عدم الاستقرار السياسي .
- إذكاء نار الفتنة القبلية والجهوية بين مكوناته المختلفة ..
- ضرب عناصر التماسك الوطني بإستهداف الثوابت المجتمعية والرموز الوطنية بحملات إعلامية تحط من قدرها ، وذلك ليفقد المجتمع أي قيمة مقدسة تشكل محورا لتماسكه الوجداني ..
- نشر الكراهية بين أبناء الوطن الواحد وتعميق الإنقسام المجتمعي ، والقضاء على حالة التسامح التي تميز الشخصية السودانية ..
والهدف من كل ذلك هو إبقاء السودان دولة متخلفة يسهل السيطرة عليه ونهب موارده وحرمانه من لعب الدور المنوط به مستفيدا من موقعه الجيوسياسي الإستراتيجي ..
والمشروع بتفاصيله هذه تتبناه الفئة الأولي من دوائر غربية ذات تأثير كبير علي سياسات دول عظمي ، وللتدليل علي أن مزاعم سيطرة المكون العسكري علي الإقتصاد وعلي المشهد هي العائق أمام التحول الديمقراطي يجب التركيز على أن الحديث عن تفكيك الجيش سبق قرارت الخامس والعشرين من إكتوبر بسنوات ، بل كان هدفا مباشرا للجهات التي رعت وأشرفت على وضع اللمسات النهائية لإسقاط النظام السابق ، ففي إكتوبر من العام 2019 عقدت تشاتام هاوس مؤتمرا في الخرطوم، تحت عنوان ( نحو النمو الاقتصادي الشامل في السودان – الإستقرار والإنتعاش ) ويكتسب هذا المؤتمر خطورته وأهميته من التوصيات التي خرج بها ومن الذين يقفون خلفه ومولوا جلسات إنعقاده ، حيث أعلن أن منظمة هيومانتي يونايتد هي التي مولت المؤتمر ، ومن المعروف أن هذه المنظمة هي فرع لتحالف من المنظمات التي قادت الحملة ضد السودان وجيشه إبان سنوات الحرب في دارفور ، كمنظمة وورلد جويش سيرفس المعادية للسودان والتي ظلت تضغط علي الحكومات الأمريكية للتضييق علي السودان إقتصاديا وسياسيا ، ومن منظمات هذا التحالف كفاية ، وأنقذوا دارفور ، ومن الشخصيات المفتاحية في هذا المؤتمر السفيرة روزاليندا مارسدن التي ألقت بثقلها خلف سلسلة من المؤتمرات بدأت قبل سقوط الحكومة السابقة للتخطيط للفترة الإنتقالية ، وخرج المؤتمر بتوصيات تتلخص في تبني برامج المؤسسات الدولية في الرؤية الإقتصادية للفترة الإنتقالية الأمر الذي فجر خلافا حادا بين حمدوك والذين يحيطون به من جهة وبين الحزب الشيوعي من جهة أخري وقتها ، كما أن المؤتمر تبني توصية واضحة بضرورة هيكلة الأجهزة الامنية والعسكرية وتقليص ميزانياتها ، بعد الإدعاء أن 70% من الموازنة مخصص للأجهزة العسكرية والأمنية ، وتوسعت التوصيات لتشمل جوانب مالية وإقتصادية ، وأخري تتعلق بنظام الحكم وتوزيع الموارد وتعديلات القوانين ، وبإختصار يمكن القول أن ذلك المؤتمر يشكل الأرضية الفكرية لحكومات حمدوك ومرجعيتها الأساسية في التخطيط والتنفيذ ..
ولمزيد من التأكيد على ترابط الحملة نجد أن رئيسة مجموعة الأزمات الدولية وهي من المراكز المعروفة بعدائها للسودان وجيشه ، ذكرت في جلسة إستماع للكونغرس الأميركي بعد قرارات الخامس والعشرين من إكتوبر أن السودان ( يخصص أكثر من 70% من موازنته للقطاع الأمني ) وحثت الإدارة الاميركية في تلك الجلسة علي تعليق المساعدات المالية للسودان وجعلها مرهونة بعودة الحكم المدني ، والضغط على السلطات السودانية للإمتناع عن تعيين رئيس وزراء بعد إستقالة حمدوك ، وهي ذات الرواية التي ظلت تكررها المسؤولة السابقة في هيومان رايتس ووتش جيهان هنري التي أعلن وزير العدل السابق نصرالدين عبدالباري انضمامها لوزارته كمستشارة حيث صرحت قائلة ( رئيس الحكومة الدكتور حمدوك يفكر في تخفيض حجم الإنفاق العسكري بشكل كبير لا سيما وأن الجيش يستحوذ علي 80 % من موازنة الدولة ) ..
أما الفئة الثانية ،فيمكن القول أنها تتألف من بعض المؤسسات ومنظمات المجتمع المدني وقليل من الأفراد ، وهي نفسها تنقسم إلي فئتين ، الأولي واعية بالمخطط متشربة بأفكاره وتري نفسها أصيلة فيه ، وفئة جذبتها الشعارات البراقة والأحاديث المنمقة وحسن ظن عريض بقدرة تلك الدوائر الغربية على تغيير وضع البلاد نحو الأفضل ،وازداد هذا الأمر في الآونة الأخيرة بصورة جلية أصبح لا يحتاج فيها إلي دليل ، وقد ساهمت المرحلة الإنتقالية التي يعيشها السودان بما تشهده من ضعف لأجهزة الدولة وصعوبات في الأوضاع الإقتصادية في بلوغ التدخل الاجنبي ذروة سنامه ، حيث تكامل التلاقي بين الدوائر الخارجية والداخلية داخل أجهزة الدولة الحساسة ، وبدأ تنفيذ المشروع المخطط له لولا أن عاجلهم الجيش بتحركه في الخامس والعشرين من إكتوبر الماضي ، وبغض النظر عن الموقف من ذلك التحرك وتسميته فإنه قد نجح مرحليا في إيقاف عجلة تنفيذ المشرع الغربي في السودان ، وهو ما يفسر شراسة الحملة وقوة الضغوط التي واجهت المكون العسكري من بعض الدوائر الغربية والاقليمية ، ويوضح طبيعة العلاقة بين هذه الدوائر وأحزاب ( 4 طويلة ) التي قال متحدثها بأنهم سيطوفون السفارات سفارة سفارة ، وهو ما تأكد بشكل جلي بعد عودة هذه الأحزاب للتفاوض مع المكون العسكري حين أصدرت بيانا أوضحت فيه أن من بين الوسائل التي تعتمدها ( لهزيمة الإنقلاب ) هي التضامن الدولي والإقليمي ..
وخلاصة القول هي أن تعميق النظر فيما يجري حولنا في الداخل والخارج سيتيح لنا رؤية الأشياء علي حقيقتها ، والتعرف علي حجم الإستهداف وآلياته ووسائله ، ومن ثم وضع الخطة المناسبة للتعامل معه بوعي يرتقي لمعرفة طبيعة شبكة العلاقات والمصالح التي تجذرت خلال فترة طويلة من التعاون بين الدوائر الخارجية وبعض الجهات في الداخل ، إذ يتجاوز الأمر ما استقر في عرف السياسة والدبلوماسية في تعريف المنظومات والأشخاص الطبيعيين والإعتباريين الذين إنبني عليهم تراث القانون الدولي وسوابق تعاملاته المستقرة عرفا وقانونا ، فنحن أمام حالة شديدة التعقيد والتداخل يستلزم التعامل معها توفير أرضية وطنية تعيد تعريف السيادة الوطنية وتعمل على تعميق الثوابت والمشتركات الجامعة لأبناء الوطن ، وقبل ذلك التواثق علي مشروع وطني يجعل أمر الإستنصار بالأجنبي فعلا مشينا وبلا جدوي ، ولن يكون الأمر كذلك إلا بصدق النوايا وتقديم مصالح الوطن علي ما عداها من مصالح ، وهذا تحد يقع على عاتق كل أبناء الوطن وبناته .