تعود بي الذاكرة إلى عام 2013 في كلمة ألقاها الرئيس المصري السابق الراحل محمد مرسي في ألمانيا؛ إستوقفتني فيها جملة بسيطة تتلخص في كلمتين فقط، وهي “الحرية مسؤولية”.
ورغم إختلافي الشديد مع توجه الحركة الإسلامية وهو توجه الرئيس السابق؛ إلا أن جملته تلك تلخص أشياء كثيرة ومعقدة في مفهوم الحرية التي نبحث عنها في الوقت الراهن بعد انتفاضة عاصفة ضد نظام العهد البائد الذي كان يقوده البشير.
وصعوبة المرحلة الحالية تكمن في كيفية تطبيق المبادئ التي نبحث عنها والتي كان الجميع ينادي بها في الشارع السوداني في حراك الثورة الأخيرة، والتي كانت ضمن الشعار المكون من ثلاث كلمات “حرية سلام وعدالة”.
التعلق بالماضي
وبكل صراحة؛ فإننا نواجهة معضلة تكمن في أن الكثير من عامة الشعب ما زال وعيهم هو إحدى إنعكاسات تركة العهد البائد، وهو أمر طبيعي بفعل التراكم الذي خلقه النظام البائد في هذه الدولة بكل وسائله.
هذا الأمر تحديداً ينعكس على ممارساتنا وسلوكياتنا في ظل الظرف الراهن الذي يواجه فيه العالم كارثة وباء الكورونا. فعلى ما يبدو أن تطبيق المبادئ التي كنا ننادي بها درسٌ قاسٍ خصوصاً في ظل الظروف الحالية.
فلقد إختلط الحابل بالنابل في فهم ما على الفرد من واجبات؛ وما له من حقوق. فالفرد مننا في الوقت الحالي يمارس ما يملي عليه مزاجه كيفما يشاء دون أن يأبه لتبعات ممارساته، أي بغض النظر عن تأثيرها على شخصه أو أنها يمكن أن يكون لها التأثير على محيطه.
أشياء تجاوزها العالم
وعندما يشاهد الجميع هذا الخلل والقصور في فهم ممارسات الفرد في ظل الظرف الراهن؛ فهنا تكمن الخطورة، ويستدعي الأمر لوقفة أخرى لفهم الأبجديات التي تخطاها العالم الأول من حيث الفهم والتطبيق على واقع هذه الحياة.
وما الكلمة التي تُعتبر نابية؛ والتي تفوه بها إمام المسجد في حديثه عما شرعت له الدولة من إجراءات للوقاية من المرض؛ إلا نموذج واضح لهذه المعضلة التي نواجهها.
وهي المعضلة الواجب فهمها بشكل ضروري وسريع لاستيعابها والشروع في السير بالفهم الذي يمنح الناس ممارسة حياتهم بشكل معافى من كل أضرار يمكن أن تحدث.
فإمام المسجد إستباح حرية التعبير. هذه حقيقة لابد من إستيعابها. ولكن، لا تكمن الكارثة في تفوهه بتلك الكلمة النابية.
ولكن الكارثة تكمن في المقصد الذي لجأ إليه في حديثه، وهو كسر ما شرعت له الدولة لحماية الناس من خطر الوباء، مدعياً بأن شرع الله أكبر من تشريعات الدولة.
الدعوة لكسر نظام الدولة
فبغض النظر عن أن شرع الله الذي يدافع عنه هذا الإمام ويدعو للتمسك به لإقامة الشعائر رغما عن أي شيء؛ أباح للإنسان أن يتبع ضرورة حفظ نفسه من التهلكة في عدة أماكن، إلا أن هذا الإمام دعى لكسر نظام الدولة الذي جاء لحماية مصالح الجميع.
وهنا خطبته دخلت في فلك التحريض على التمرد على قوانين الدولة، وهو التمرد الذي ستكون عواقبه وخيمة على الناس، فإذا ما استمرت بالتجمع لأي سببٍ كان بما فيها إقامة الشعائر الدينية.
فإن خطر إنتشار الفيروس سيكون هو المهدد الأكبر والذي سيصب أعداد كبيرة من الناس، وبذلك يدخل السودان في طور حصد الوفيات بالأرقام الكبيرة مثلما هو الحال في عدة دول مجاورة.
ومزاج التمرد وكسر قوانين الدولة ونزعة الرفض الكبيرة؛ بات هو المزاج الغالب لدى الكثير من المواطنين المتواجدين في العاصمة، وباتت الشواهد كثيرة تؤكد هذا الأمر.
فالشاهد الآخر هو قيام مجموعة كبيرة من المواطنين بحرق الإطارات في باحة مستشفى جبرة إحتجاجاً على تحويله إلى مركز حجر صحي لوباء الكورونا.
وهو أمر آخر يثبت أن اللبس في فهم الحرية ما زال يخيم على الوعي لدى نسبة مقدرة من الشعب السوداني.
التمرد
وشاهد آخر ظهر على مواقع التواصل الإجتماعي خلال الأيام القليلة الماضية؛ لمواطن سوادني يتحدث معلناً عن كسره لقوانين حظر التجول لأسبابه الخاصة التي تتعلق باحتياجاته التي تحتم عليه التجول بعربته في مختلف شوارع العاصمة بغض النظر عن التوقيت، وأن وجود الفيروس في السودان ما هو إلا محض كذبة!اين المسؤولية هنا.
وهنا لابد من الوقفه وتوجيه النداء لكل المواطنين في ظل الظرف الحالي؛ بأن الحرية ليست إباحية، أي ليست هي الزريعة التي تجعل منك ذلك الشخص الذي يستبيح كل ما هو ممكن لإثبات أحقيته في ممارسة ما يملي عليه مزاجه.
التفريق بين الأشياء
والفرز بين الحرية على مستوى الفرد وبين نظم وقوانين وتشريعات الدولة لابد أن يظهر أمام العيان لضرورة فهم أبجدية الحرية التي نبحث عنها.
فما يحدث في الوقت الحالي من مثل هذه المواقف المذكورة أعلاه ما هو إلا استباحة للدولة وقوانينها وتشريعاتها التي لابد أن تكون هدفها أولاً وأخيراً هو حماية المواطن ومنحه كل حقوقه واحتياجاته.
ولقد جاء الوقت لنفهم المضمون الحقيقي لما قاله محمد مرسي، بأن الحرية مسؤولية. فالمسؤولية تكمن ففي التقيد بقوانين الدولة وتشريعاتها لهدف حماية الشارع العام من أي خطر.
فسن قرار حظر التجول والتعامل معه بجدية من قِبل الأجهزة المختصة هو من صميم عمل الدولة، وليست ممارسة دكتاتورية كما يروج لها البعض.
مسوؤلية الفرد
لم تسن الدولة هذه القرارات لإرغام الناس على تنفيذها، وإنما جاءت بمناشدة خاطبت مسؤولية الأفراد في فهمهم لأبعاد هذا القرار، ما يعني؛ أن المسؤولية في التعاون مع الدولة في تنفيذ قرار حظر التجول.
لهو من صميم عمل الدولة لحماية الفرد بهدف الوصول إلى مرحلة عيش الحياة الكريمة والتمتع بحق ممارساته الشخصية التي تعود بالفائدة له ولا تعود بالضرر على محيطه لذلك فان الحرية مسؤولية.
فالحرية هنا ليست إباحية
وإنما الحرية مسؤولية.
لنفهم هذا الدرس يا شعب السودان أولا وأخيراً.