يزداد المشهد السياسي السوداني تعقيداً مع كل يوم جديد، فحالة التشظي التي ضربت القوى المدنية، أعاقت الوصول إلى رؤية مشتركة، وفجوة الثقة المتسعة بين المكون العسكري والمكونات المدنية، باعدت فرص الحل، على الرغم من التعهدات بانسحاب المؤسسة العسكرية من السياسة، بينما ترتفع حدة الاحتجاجات على الشارع حيناً.
وتتراجع حيناً آخر، مع بوادر للإضرابات في الأسواق، انتظمت بعدد من مدن البلاد، وفي خضم الفوضى السياسية، تتناسل المبادرات الوطنية دون نتائج، وتتكاثف التحركات الإقليمية والدولية من أجل إيجاد أرضية مشتركة يتواضع فيها الجميع على طاولة حوار واحدة.
يؤكد المكون العسكري التزامه الكامل بخروج المؤسسة العسكرية من الحياة السياسية، وانخراطها في أداء مهامها في حماية أمن واستقرار البلاد، لكن تلك التأكيدات تقول القوى المدنية إنها غير كافية.
ولا بد من إتباعها بإجراءات عملية تلغي قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، التي بموجبها أبعد رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة الفريق أول عبدالفتاح البرهان المكون المدني عن السلطة، وجمّد النصوص المتعلقة بالشراكة المدنية العسكرية في الوثيقة الدستورية.
في المقابل ظل التباعد بين المكونات المدنية ما بين رافض لوجود العسكريين في السلطة بشكل كامل، وآخرين يرون ضرورة وجود المؤسسة العسكرية بشكل ما في السلطة الانتقالية
وطرف ثالث ينادي بالحل الجذري للأزمة من خلال إبعاد المؤسسة العسكرية والقوى التقليدية عن المشهد والتأسيس لإدارة البلاد وفق رؤية جديدة تعيد هيكلة كل مؤسسات البلاد بما فيها المؤسسات النظامية.
خطوات الانهيار
ويقر رئيس المكتب السياسي بحزب الأمة القومي محمد المهدي حسن لـ«البيان» بأن الأوضاع في البلاد بلغت مراحل بالغة السوء حد وصفه، في ظل انسداد كامل في الأفق، فاقم منها ندرة اللقاءات بين فرقاء الأزمة، وبطء خطوات الآلية الثلاثية المكونة من بعثة يونيتامس والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيغاد، مع تسارع خطوات الانهيار حد قوله، بجانب ذلك زيادة حجم الاضطرابات والصراعات القبلية التي باتت عنصر إزعاج للجميع.
ويشدد حسن على أن تلك الأوضاع بحاجة ماسة إلى قرارات شجاعة من قبل كل القوى السياسية، والتحرك إلى محطة ثالثة غير المحطة الحالية، تكون وجهتها الأساسية الوطن، لافتاً إلى أن العبء الأكبر في ذلك يقع على المكون العسكري، عبر اتخاذ خطوات جادة نحو إنهاء الإجراءات التي اتخذت في 25 أكتوبر باعتبار أن تلك القرارات أحدثت أزمة ثقة كبيرة بين المدنيين والعسكريين.
ولا يبددها إلا قرار واضح من المكون العسكري واعتراف بأنه وصول إلى طريق مسدود وليس لديه رغبة ولا قدرة على مواصلة إدارة البلاد، وكذلك يجب على القوى السياسية أن تصل إلى الحد الأدنى من التوافق، من خلال تقديم تنازلات تعلي من أجندة الوطن على الأجندة الحزبية، والاعتراف بالأخطاء التي وقعت فيها كل الأطراف.
توحيد المبادرات
ويؤكد مساعد رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي الأصل البخاري الجعلي في تصريح لـ«البيان» أن الجميع متفقون على أن هناك أزمة مستعصية طال أمدها.
ويشير إلى أن بعض القوى الوطنية ساهمت بتخندقها في خانة الإقصاء في تأزم الأوضاع، ويلفت إلى أنه وحتى الأطراف الخارجية التي تعوّل عليها تلك القوى هي ذاتها قد وصلت إلى ما يشبه القناعة بوجوب أن تحصل تنازلات من كل الأطراف، خاصة أن الأطراف الخارجية حريصة كل الحرص على تحييد المكون العسكري على الأقل في ظل التنافس الدولي الحالي.
ويشير الجعلي إلى أن السودان بالنسبة لدول الاتحاد الأوروبي محطة مهمة بالرغم مما يعانيه من أزمات معقدة، فهو بحسب الجعلي محور مهم في قلب إفريقيا من ناحية ومن شرقها من ناحية، ومن غربها من ناحية ثالثة، ويضيف:
لكل تلك الأسباب يبدو أن العسكريين صبروا لما يكفي من وجهة نظرهم خاصة أنهم يتحملون الآن عبء مسؤولية حكم البلاد، وقد أعلنوا صراحة قبل عدة أشهر وظلوا متمسكين بما طرحوه في الداخل والخارج بعدم رغبتهم في المشاركة في السلطة باعتبار أن هذه المهمة تترك بشكل كامل للقوى المدنية».
ويؤكد مساعد رئيس الحزب الاتحادي البخاري الجعلي أن حزبه تقدم بطرح لتجاوز الأزمة التي تشهدها البلاد عبر المبادرة الوطنية التي تقدم بها الحزب مع عدد من التكتلات والمكونات من مختلف أنحاء السودان، وقال إنها تصب في مجملها نحو جمع كل المبادرات المطروحة في الساحة السياسية السودانية من أجل الوصول إلى الحد الأدنى المشترك لإنقاذ البلاد من هذا المنحنى الخطير حد وصفه.
تقاطعات وتفاؤل
من جهته، يؤكد الناطق الرسمي باسم الحرية والتغيير – التوافق الوطني محمد زكريا لـ«البيان» أن الأزمة السودانية هي نتاج لتقاطعات بين المكونات المدنية والمكون العسكري، وكذلك تقاطعات ما بين المكونات المدنية في حد ذاتها بدليل تشظي تحالف قوى الحرية والتغيير إلى ثلاثة مكونات هي (التوافق الوطني، المجلس المركزي، والقوى الوطنية) وكل تلك المجموعات لديها مبادرات ورؤى للحل.
ويشير إلى أنهم في قوى الحرية والتغيير – التوافق الوطني أنتجوا ما يسمى بالإعلان السياسي لدعم الانتقال الديمقراطي، بينما تدعم قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي مبادرة النقابة التسييرية للمحامين.
والآخرون لديهم أيضاً رؤى في ذلك، مؤكداً أن الحل يتمثل في تجميع كل تلك المبادرات بواسطة لجنة وطنية مستقلة مدعومة من قبل المجتمع الدولي والإقليمي لجهة التوصل إلى ورقة موحدة تمثل حلاً للخلافات بين القوى المدنية نفسها، وكذلك القوى المدنية والعسكرية.
وحول التحركات الدولية والإقليمية المكثفة التي تشهدها الساحة السياسية هذه الأيام أكد زكريا أن المجتمع الدولي والإقليمي كثف نشاطه خلال الفترة الأخيرة وبعد مرور عام على قرارات الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي الاستثنائية، باعتبار أن تلك القرارات أحدثت آثاراً اقتصادية وسياسية على السودان، ما خلق مخاوف من أن يؤدى ذلك إلى انفلات يمكن أن ينعكس على كل المنطقة.
ويلفت إلى أنه وبحكم موقع السودان الاستراتيجي تعاظم الحراك الإقليمي والدولي.
وأشار إلى أن هناك اجتماعات ظلت ترتب لها الآلية الرباعية المكونة من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية وبريطانيا والولايات المتحدة، غير أنه أكد أن ما أعاق الوصول إلى تفاهمات في تلك الاجتماعات هو تعنت مجموعة الحرية والتغيير – المجلس المركزي لأسباب إجرائية تتعلق بالأشخاص والهيئات التي يجب أن تكون حاضرة في مثل تلك الاجتماعات.
وأبدى الناطق باسم الحرية والتغيير – التوافق الوطني محمد زكريا تفاؤلاً بأن المستقبل القريب سيشهد اختراقاً كبيراً في المشهد السياسي السوداني، وأكد أنهم أكثر انفتاحاً للجلوس مع مختلف المكونات.