الأحداث الدامية التي وقعت بولاية النيل الأزرق وراح ضحيتها أكثر من ثمانين شخصا ما بين قتيل وجريح، بجانب الاتلاف الذي طال عددا من المحال التجارية والممتلكات منذ اندلاعها أكد بما لا يدع مجالا للشك أن السبب وراء هذا الصراع مرده لضعف وتراجع ثقافة التعايش السلمي، والتوعية الكافية بأهمية السلام المجتمعي الذي يلعب دورا مهما في تقريب المسافة بين مكونات المجتمع، وصون الأنفس والأعراض بالتأكيد على حرمة الدماء التي أكد ديننا الحنيف على الكف عنها.
بما تزخر به ولاية النيل الأزرق من خيرات وثروات عديدة، بجانب قدرتها على المساهمة الكبيرة في رفد الاقتصاد القومي كل ذلك يجعلني أسأل لمصلحة من تستعر نار الفتنة القبلية في هذه الولاية الوادعة، التي مهدت للحكم الفيدرالي الإقليمي في تجربة تستحق أن يتوقف عندها أهل السودان بشيء من الإعجاب والتقدير، ويسترشدوا بها لتكملة مشروع كيف يحكم السودان؟ تعود أسباب الصراع الصراع في النيل الأزرق لعدة أسباب.. اندلعت اشتباكات بين قبائل الهوسا و البرتا وبعض قبائل المنطقة ، مما أدى إلى مقتل أكثر من 80 شخصًا حتى 21 يوليو 2022. ونجمت الاشتباكات عن نزاع على أرض زراعية قتل فيها رجل من قبيلة الهوسا أخرى من قبيلة بيرتا في منطقة أداشي بمنطقة قيسان. لكن أصبح معروفًا فيما بعد أن السبب الرئيسي هو مطالبة قبيلة الهوسا بتأسيس إمارتهم الخاصة في ولاية النيل الأزرق على الحدود مع إثيوبيا. طلب زعماء قبائل تمثيلهم في الإدارة المدنية للإشراف على الوصول إلى الأرض والمياه ، لكن زعماء القبائل رفضوا ذلك. تدعي قبيلة بيرتا امتلاك الأرض ، وترفض السماح لغيرها من السكان غير القبليين بالتواجد على الأرض ، وترفض أي إشراف خارجي.. وكان أحد المسؤولين يريد أن يمنح قبيلة الهوسا نظارة في النيل الأزرق.. لكن تعود جزور المشكلة في فترة الحكومات السابقة لم تعالج أمر الحدود والنظارات وشيوخ القبائل.. الأمر ليس وليد اللحظة.
إعلان حالة الطوارئ، وحظر التجوال الذي اتخذته حكومة الإقليم يعد خطوة موفقة، تحسب لصالح حكومة الإقليم، لكن هذه الإجراءات ليست كافية لإعادة استتباب الأمن بربوع النيل الأزرق، بدليل أنه بالرغم من سريان قرار حظر التجوال، ومنع التجمعات، إلا أن بعض مناطق الإقليم شهدت مواجهات عنف صبيحة اليوم التالي للأحداث، وبعد إعلان حالة الطوارئ.. ما يتطلب مزيدا مزيدا من الوجود الشرطي والأمني الذي يتناسب وحجم الأحداث، للحيلولة دون حدوث مزيد المواجهات، وسقوط أعداد أخرى من الضحايا.
معرفة أسباب الأزمة هي أولى الخطوات في طريق الحل، ويقع على عاتق الإدارة الأهلية العبء الأكبر في إصلاح ذات البين وسط القبائل المتصارعة، بعد أن تهدأ النفوس وتستقر الأوضاع..وكذلك على الأحزاب السياسية توعية المجتمع بمخاطر القبلية.
الأزمة الدائرة بالنيل الأزرق بحاجة إلى حكمة لأجل الخروج منها بأقل الخسائر، وعدم التعجل في اتخاذ قرارات قد يصعب الرجوع منها حال ثبت عدم صحتها.. وحتى الآن تعامل العسكر بحكمة عالية وضبط النفس.
مع تكرار مثل هذه الأزمات في العديد من بقاع السودان، كسب السودانييون خبرة كبيرة في مواجهتها، وقدروا على إصلاح الأمر رغما عن الجراح والألم الناتج عنها، وهذا ما نتوقعه تماما من حكومة الإقليم تجاه هذه الأزمة، إن كان بالصلح الذي يبرم، أو ب(القلد) الذي تعارف عليه أهل السودان.
وإن كنت على قناعة تامة بأن التعايش السلمي يحتاج إلى قوانين وقيم تتنزل على أرض الواقع، تكون ملزمة للجميع، على أن يتم تقنين حمل السلاح، لضمان عدم المواجهة بين القبائل حال وقعت أية أزمة مستقبلا.
مع ضرورة إشاعة روح التضامن والإخاء بين جميع أهل السودان الذين عانوا من ويلات الحروب التي أفقدتهم الآلاف معظمهم من الشباب، وما ترتب على الحرب من نزوح ولد فراغا أثر على الجغرافيا والتضاريس، وقاد لإضعاف الإنتاج.
أقدار المولى عز وجل لا مفر منها، ولكن كيف نستفيد من مثل هذه الدروس؟ مع العلم بأن الحرب في المنطقتين في السابق قد كبدت الولاية والوطن خسائر فادحة في الأرواح والممتلكات.
هنا يثور سؤال مهم من يقف وراء هذه الأزمات المتلاحقة، ولا يريد لهذا البلد المسخن بالجراح أن يتعافى مستغلا حالة ضعفنا والهزات التي طالعت مجتمعنا ليلهب ظهرنا بسياط الفرقة والشتات؟
متى ما وعينا بالمخطط الغربي الخبيث الذي يدبر بليل لتفكيك السودان إلى دويلات، ستكون بلادنا قد خطت خطوات في طريق الوحدة، والتسامي فوق الجراح، آلمني ما حل بالنيل الأزرق، وأتمنى من كل قلبي أن يعود الأمن والاستقرار لكل المناطق التي طالتها هذه الفتنة،