حسين خوجلي يكتب
نحن جيل من الصحفيين والاعلاميين والسياسيين احتفظ بكثير من الود المعلن والخفي لأبناء جيلنا رغم وعثاء السياسة وخصوماتها الفكرية والتنظيمية. وفي هذا البحر المتلاطم من التقاطعات فقد احتفظت منذ الدراسة الثانوية وحتى زمان العمر المخيف -الذي كان يحاذر منه العباسي- فقد ظلت هذه الوشائج باقية لم تزلزلها دورة الأيام وكر الليالي، فما زلت احتفظ في دفاتر الذاكرة بأسماء كثير من الأصدقاء من أقصى اليمين لأقصى الشمال، وكنا جميعا نترفع من أن يفسد الاختلاف للود قضية .
اتصل بالأمس أحد الأصدقاء من اليساريين المتمردين على قوالب المؤسسية الحزبية والباحثين عن الحقيقة وقد ألهمه هذا البحث المضني الكثير من السعة والمثاقفة والتجرد وحب الآخرين. تهاتفنا طويلا وكان يشكو لي قسوة الرفاق والنشامى وبعض أدعياء النضال وهم يمارسون تلك اللغة السافرة الابتذال، وهم يهاجمون الدكتور عبد الله حمدوك كان الرفيق يتحدث بحزن فياض، وشجن أليم وقد أبت اللغة الفكرية أن تلجم افتضاحه. وقلت له مواسيا وأنا أعرف أحترامه للآخر وتقدير مواقفه وأدبه المستتر في مناقشة القضايا الخلافية، قلت له مواسياً: ما دمت يا صديقي تحتفظ بهذا الروح الشفيف في مناقشة القضايا السياسية والفكرية فاسمح لي بعتاب عابر، ويبقى الود ما بقي العتاب.
فأنتم معشر أهل اليسار السوداني بخلاف كل التيار اليساري العربي تحتفظون بقطيعة جهيرة مع الثقافة العربية الاسلامية، فلا هي بائنة في ممارستكم للسياسة ولا هي في لسانكم ولا هي في أدبياتكم ودونكم مأثوراتكم التي تبدو خالية تماماً من البسملة والتوحيد وسيرة المصطفي (ص). وأبجديات هذا المعتقد الكريم وإن كنا نجد العزاء في كتابات حسين مروة اللبناني وعبد الرحمن الشرقاوي المصري وأشعار الجواهري والسياب العراقيان، وبعض كتاب المغاربة المتاثرين بالاشتراكية الفرنسية واجتهادات روجيه جارودي المجتهد، بل إن سلوك الازدراء الفكري هذا قد تعدى إلو موروث الثقافة السودانية من بطولات وسير وقيم وادبيات وبطولات، وكأنكم تنزلتم على هذه البلاد المسلمة من كوكب آخر غير كوكب هذه الملايين السمراء. لقد فشلتم فشلاً ذريعا في استقطاب هذا الشعب المنفتح على كل الأفكار والمذاهب ليقترف جرعة من مشرب الشيوع والاشتراكية والعدالة التي تدعون .
ولو كنتم تلتزمون ببعض هذا الإرث الحضاري العريق لما نالك هذا الحزن الكثيف، وما نال السيد رئيس الوزراء هذا السيل الجارف من الشتيمة والتطاول مع الاحتفاظ بحق النقد والتصويب والنصيحة، فالرجل للحقيقة يحتاجها ليل نهار فهو صاحب تجربة سياسية مليئة بالتردد والخروق.
ومن الأمثلة التي تلجم شح النفس عند السودانيين واغلاق الخصومة قوله تعالى: { وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } [سورة فصلت: 34-36].
ومن الأحاديث التي تحرس الألسن بالأدب وتقبض الأيدي عن العنف: (المسلم من سلم المسلون من لسانه ويده)
ومن المخازي المشهودة للأحزاب الدنيوية ذات الصراخ الشعوبي أنها تعادي بلا رجعة ولا حدود، مثلما أنها تحب على الاطلاق بالهوى وتعشق بنزقات الشيطان غير ابهة بنصيحة أبي تراب في نهج البلاغة: (أحبب حبيبك هونا .. عسى أن يكون بغيضك يوما ما ، وابغض بغيضك هونا عسى أن يكون حبيبك يوما ما) .
ومما استوقفني في باب الشعر العربي أفادة المتنبي البليغة حين تعرض للاغتيال من عشيرة صديقه سيف الدولة : فقد قالها وهو يهم بالمغادرة بأنفة واعتزاز:
وَمُنتَسِبٍ عِندي إِلى مَن أُحِبُّهُ
وَلِلنُبلِ حَولي مِن يَدَيهِ حَفيفُ
فَهَيَّجَ مِن شَوقي وَما مِن مَذَلَّةٍ
حَنَنتُ وَلَكِنَّ الكَريمَ أَلوفُ
وَكُلُّ وِدادٍ لا يَدومُ عَلى الأَذى
دَوامَ وِدادي لِلحُسَينِ ضَعيفُ
فَإِن يَكُنِ الفِعلُ الَّذي ساءَ واحِداً
فَأَفعالُهُ اللائي سَرَرنَ أُلوفُ
وَنَفسي لَهُ نَفسي الفِداءُ لِنَفسِهِ
وَلَكِنَّ بَعضَ المالِكينَ عَنيفُ
فإن كان يبغي قتلها يكن قاتلا بكفيه
فالقتل الشريف شريف
ومما تجاهلته موضة وموجة الغابة والصحراء لكتاب اليسار غفلة وجهلا أدبيات حداء البادية وأغنيات أمدرمان واصقاع وحواضر الهامش المفترى عليه، ومن قلب مئات النصوص وأواسطها من رائعة محمد علي الأمي:-
ما بخاف من شئ برضي صابر
والمقدر لابد يكون
وبقية النص يصلح موسوعة للتربية والخلق الرفيع ..
ومن لطائف الأدب الشعبي التي نرجو أن يتأسى بها أهل المقامات والرياسات التي نالوها بالحظ أو سينالون بالصندوق المر والاقتراع الرصين، فالسودانيين أن أحبوا شخصا أو قياديا أو رمزا أو مكانا أو زمانا وراهنوا عليه واستيقنوا من بعد مفارقته فإنهم يهجونه بلغة تخرج من الألسن لا من القلوب. فقد وثق الأذكياء لشعراء البطانة أنهم حين يأسوا من ايقاف مشروع خشم القربة والذي حولها من مرعى مفتوح إلى مزرعة محدودة قدحوا ولمزوا جنابها في هجاء يشبه النحيب اليائس المدح، وهو باب اشتهر به أهل السودان دون الآخرين وقد استخدموا مفردات على شاكلة (الله يقدك، والله يخربك، والله يلادي محنك) مثل قولهم:
الله يقدك يا ام قشا بقوم ريقان
وجابولك حديدا غرق السياسان
كان حضروك ناس ود اب علي وحسان
ما بدوك لي فخري اب عيونو مكان
*وفخري هذا أحد مفتشي المشروع.
من ذات الشاكلة في الهجاء الخفيض الأثر قول ود الشلهمة:
نسيتي الكرتي والصقر البتل ويهشك .
نسيتي الموت والدم الجمد فوق وشك
جهجهتي القبايل بي مطرك خريفك ورشك
الله “يلادي” محنك يا البسمن قشك
والباب في مثل هذا الأدب العبقري طويل وأن أردنا أن ندخل غناء المدينة في عزاء هذا المقام المستهدف وهو يجابه جملة النقائض الغاضبة فلنستلهم معا “اليازة” اللواء عوض احمد خليفة عشرة الايام ، طقطوقة كجراي “الريدة الكتيرة يا حنين شقاوة”.
ولا أجد نهاية لهذه الخاطرة في نفوس السودانيين أبهى مما تثيره فيهم من معاني وأغاني وذكريات، أما بيت القصيد الأبقى فهو أن يراجع أهل السياسة والاخلاق والتاريخ صحيفة الميدان وزميلاتها منذ صدورها في الأربعينات إلى اليوم واتحداهم أن يجدوا فيها تعظيما لاسم الجلالة أو افتتاحا باسمه الكريم أو إيراد آية للتعظيم والاستدلال أو تضمين حديث للمصطفى قولاً وفعلا وتقريرا، أو ذكر بطولة لصحابي أو صحابية، أو بواعث احترام للتاريخ الاسلامي أو العربي أو السوداني المرتبط بالتوحيد والبطولات والغيب.
وأخيرا جدا فهل ترى عزيزي القارئ فيما ذكرنا بعض العزاء للرفيق وللرئيس وللشارع أم أنها ستبقى مجرد خاطرة عابرة من المستطرف السوداني.