منذ اندلاع الحرب الاوكرانية الروسية قبل اسابيع طفت الى السطح “النزعة المسالمة” بشكل غير مسبوق لم نرى لها مثيلا إبان الحروب العدوانية في العراق وافغانستان وليبيا وسوريا وغيرها، وعلى مدى اكثر من نصف قرن في فلسطين المحتلة، حيث تم تشريد وتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وزرع كيان اسرائيلي لقيط يسمى “دولة إسرائيل” في الوطن العربي، بمباركة القوى الامبريالية والحركة الاستعمارية كاداة في يد الحركة الصهيونية العالمية، وارتكبت خلالها العصابات الصهيونية العديد من المجازر والجرائم ضد الانسانية، دون ان يحرك ذلك ساكنا عند دعاة المسالمة، والعمل على دعم الفلسطين المهجرين والمضطهدين بالمال والسلاح كما يفعل “العالم الحر” اليوم في اوكرانيا.
لقد سقط القناع عن دعاة الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان في الغرب الراسمالي المتوحش، وشاهدنا مواقفهم عندما تشتد المقاومة الوطنية الفلسطينية واللبنانية ضد الغطرسة الصهيونية الغاشمة، وكيف تتصاعد اصواتهم هنا وهناك مدعومة من القوى الرجعية العربية، لفرض التهدئة وضبط النفس بلا وجل، بينما نراها اليوم واصواتهم “غاضبة” من التدخل الروسي في اوكرانيا تجند انصارها وهي تصرخ وتندب حظها على “التساهل” مع الجيش الروسي، من قبل قوات حلف الناتو والغرب الراسمالي مجتمعان، وتنتقد قراراتهما بفرض العقوبات التي لا تسمن ولا تغني في شيىء اما الاستعداد الجيد الروسي للحرب.
وهكذا توحد الغرب الامبريالي لاول مرة وهو موغل في اليمين المتطرف على نهج خط التصعيد وتزويد القوى الفاشية والنازية الجديدة بالسلاح والعمل على تجنيد المرتزقة من كل فج عميق.
من هنا فإن نزعة “المسالمة” ذات العواطف الجياشة اتجاه الحرب الروسية الأوكرانية، لا تسعى الى درء الحروب ومنعها باعتبارها جائرة وعدوانية، ومن تمة العمل على نشر الامن والسلم العالميين، وانما وهي تمارس ذلك من اجل التضليل والديماغوجية لابعاد الشبهة عن النظام الراسمالي الجشع لكونه هو مصدر كل الحروب.
ولتحقيق اهداف الغرب الامبريالي وعلى نطاق واسع تعمل الدعاية الاعلامية الامريكية الفجة على شيطنة روسيا، واعتبارها الخطر القادم الذي يهدد ليس فقط اوكرانيا بل اوروبا برمتها، وبذلك نجحت في خداع القادة الاوربيين ونشر الرعب والخوف وسط شعوب اوربا بشرقها وغربها، وجعلت اعضاء حلف الناتو يعودون الى مشاريع السباق نحو التسلح لمواجهة ما تعتبره “عودة شبح الشيوعية” !
صحيح ان الحروب لها قدرة على التدمير واحداث اكبر الخسائر في الارواح والعمران، خاصة في ظل تواجد اسلحة فتاكة غير مسبوقة، وان الضحايا هم دائما من الشعوب قبل الجيوش، الا ان حقائق التاريخ تفرض علينا ان نميز بين الحروب التي تسعى الى تحرير الشعوب من الاضطهاد القومي والعرقي والطبقي، وتدود عن الاستقلال والسيادة الوطنية للشعوب والبلدان التواقة للتحرر والانعتاق، وهي بذلك تعتبر حروب عادلة، وبين الحروب التي تسعى الى احتلال الاوطان والاستيلاء على الاراضي ونهب الثروات، وتصفية كل المكتسبات الاجتماعية والتاريخية والحضارية التي راكمتها لعقود بل وقرون، ولا يمكن ان تكون الا حروبا عدوانية ظالمة.
ان الحرب المشتعلة اليوم في اوكرانيا حيث ورطت امريكا ومعها الحلف الامبريالي الصهيوني دولة اوكرانيا، في معركة خاسرة ضد القوة الروسية الصاعدة الوفية للعقيدة العسكرية للجيش الاحمر بعد ان تجرعت مرارة الاذلال ابان انهيار الاتحاد السوفياتي وفرض شروط امريكا، سيكون من الصعب تحديد طبيعتها ومداها وماهية النتائج التي ستسفر عنها، وسيبقى التاريخ القريب وحده من سيحكم عليها بالنظر الى التطورات الميدانية والتحولات الجيوستراتيجية التي سيكون لها بلا شك تاثير كبير على العلاقات الدولية وعلى مستقبل البشرية جمعاء.
وفي انتظار ذلك، فان الوضع يفرض علينا تحديد المسؤوليات ودرجتها وتسمية الاشياء بمسميانها، دون السقوط في دائرة النزعة المسالمة او الحماسة نحو الامجاد التاريخية، او حتى الوسطية والحيادية القاتلة، فالنازيون الجدد في اوكرانيا قد ارتكبوا مجازر ضد الانسانية ذهب ضحيتها اكثر من 13 الف مدني خلال ثماني سنوات في المدن المجاوة والمؤيدة لروسيا، وتم ارتكاب محرقة رهيبة في حق العمال المناهضون للنازية بحرق مقراتهم، وشنت حملة تطهير ضد اعضاء وقادة الحزب الشيوعي الأوكراني، وهذه وقائع موجود وموثقة بالصوت والصورة رغم التعتيم الإعلامي الامبريالي البغيض.
واصبحت دولة اوكرانيا وشعبها تحت رحمة العصابات النازية والجماعات اليمينية المتطرفة التي تم تجنيدها من طرف المخابرات الامريكية والبريطانية، لتقوم مقامها في حرب بالنيابة ضد روسيا، وتشكل اوكرانيا اليوم مركز الاستقطاب العالمي لجميع التنظيمات اليمينة المتطرفة ونقطة تجميع لاحفاد النظام النازي الفاشي من عدة دول وفي عدة قارات.
ما يقع اليوم كييف شبيه بما وقع افغانستان في عهد الرئيس نجيب الله حيث تم حشد عملاء السي ان اي تحت يافطة الجهاد ضد العزو الروسي، وربما سيكون اخطر واكثر بشاعة وعنفا لانه يسعى الى احيا، امجاد النازية والفاشية الذي قض مضجعه الجيش الأحمر، وهذا ليس فيه اي تبرير للتدخل الروسي في اوكرانيا، وفي نفس الوقت لا يمكن ان نكون في وضع اما مع او ضد، علما ان الحروب كانت دائمآ وسيلة لحل التناقضات التناحرية للتطور الاجتماعي في المجتمعات الطبقية، وان كانت “شكلا قاسيا لحل التناحرات الاجتماعية” كما وصفها انجلز، وبما انها مجرد استمرار للسياسة بوسائل اخرى” عند لينين، فان النتائج هي من ستحدد طبيعة هذه الحرب الدائرة اليوم، وعدالتها تتحدد انطلاقا من الدفاع عن مصالح الشعوب وحقها في تقرير المصير والعيش المشترك بسلام وامن وأمان، وانهاء نظام القطب الواحد الموغل في التوحش والعدوان وتعميق الاستغلال والاستبداد مما يهدد مستقبل الارض والانسان، وفتح ممرات لبزوغ نظام عالمي جديد تسود فيه العلاقات الندية بين الدول والسعي الجماعي نحو تحقيق العدل والمساواة بين جميع الشعوب والانتصار لضمير الإنسانية !
يوسف