مع موجة الحر الشديدة التي تجتاح كامل منطقة الشرق الأوسط، ولأسباب خاصة تتعلق بشح المياه والانقطاع الدائم للتيار الكهربائي، فإن أغلبية واضحة من سكان منطقة الجزيرة السورية، في أقصى شمال شرقي سوريا، صارت تفكر بإعادة بناء بيوت طينية تقليدية، تلك التي كانت شكل العمران الأعم في تلك المنطقة لأكثر من قرنين من الزمن، ثم اختفت.فطبيعة الطين تسمح له بامتصاص درجات الحرارة الزائد، قد تصل إلى 7 درجات حسب الخُبراء، كذلك فإن جدران الغرف الطينية المبنية من الطوب، والتي يصل سمكها إلى قرابة المتر، أنما تتحول إلى عازل للساكنين داخلها عن الفضاء الخارجي الحار للغاية.يستعرض المصور إبراهيم القطران عرس في قريته “جب الملوحي” في أقصى شمال شرق سوريا في ثمانينات القرن المنصرم، مشيراً إلى ملامح القرية التي كانت تضم قرابة 200 بيت، واشكالها الهندسية الفسيحة وطابعها طيني وقتئذ، وكيف تحولت بالتقادم إلى قرية اسمنتية تماماً، خلا البعض القليل من البيوت شبه المهجورة، وأن كُل ذلك حدث خلال العقود الأربعة الأخيرة.ويضيف القطران في حديث مع سكاي نيوز عربية: “كان سكان قريتنا هذه، مثل باقي قُرى المنطقة، يعملون في الزراعة والرعي، لذا كانت البيوت الطينية مناسبة تماماً لأنماط حياتهم. فالمواد المستعملة في البناء كانت كلها من المنتجات الزراعية، كذلك فإن الفضاء الطيني الفسيح كان ملائماً لتربية المواشي، التي كانت تصل إلى أكثر من مائتي خروف ومعزة لكل عائلة، التي كانت تُدار في الزرائب الطينية المتداخلة مع البيوت السكنية”.وأضاف القطران، الذي يعمل مصوراً فوتوغرافياً احترافياً منذ سنوات: “لعوامل اقتصادية واجتماعية، فإن السكان هدوا بالتتالي جميع بيوتهم الطينية تلك، وبنوا مكانها منازل اسمنتية. فالقرويون تخلوا بأغلبيتهم عن تربية الماشية، وتركوا حتى المهن الفلاحية، خصوصاً بعد التطور الشديد الذي لاقته الآلات الزراعية الحديثة، من جرارات وحصادات، التي لا تحتاج لأي جهد فلاحي تقريباً”.منطقة الجزيرة السورية، التي تضم محافظات دير الزور الرقة والحسكة، تشكل سهباً زراعياً فسيحاً، يمتد لأكثر من 50 ألف كيلومتر مربع، وكانت مصدراً رئيسياً وشهيراً لزراعة الحبوب في المنطقة، بالذات القمح والشعير. هذه المنطقة التي شهدت موجات من الاستقرار البشري خلال العقود الأولى من القرن المنصرم، بكثافة تجاوزت بناء أكثر من ألف قرية خلال أقل من ربع قرن، وذلك لخصوبة أراضها وجودة محصولها، حتى أنها كانت تُسمى “كاليفورنيا الشرق”.في حديثه مع سكاي نيوز عربية، يذكر البناء شاهين بيدروس كيف أن ذويه الذين امتهنوا حرفة بناء البيوت الطينية بقوا لعقود يشيدون تلك البيوت الطينية التي كانت متطابقة لنمط الحياة وقتئذ. فالمواد الأولية المُستعملة حسب بيدروس، كانت التراب المحلي ومادة التبن التي كانت من بقايا عملية الحصاد، الذي كان يخلط مع التراب لصناعة “الطوب المقولب” السميك، الذي كان يشكل مادة حيطان البيوت، بينما كانت السقوف تُسند بأخشاب أشجار البان المُجففة
ويضيف بيدروس في حديثه عن ذاكرته وما نقله عن والده البناء كيفورك بيدروس “لم يكن سكان هذه الأنماط من البيوت يشعرون بارتفاع درجة الحرارة حينما يكونون في داخلها، فالطين كان يمتص دارجات الحرارة ولا يعكس أشعة الشمس وتساعد رطوبته على إحداث نوع من التبريد الدائم. إضافة إلى ذلك، فإن شبابيك تلك البيوت عادة ما تكون كبيرة وقُبالة بعضها البعض، فتسير الرياح والنسائم بسلاسة كبيرة. وعلاوة على ذلك، فإن البيوت المضاعفة، حيث كانت توضع طوبان متقابلان أثناء بناء جدران البيت، بحيث يُصبح ثخن الجدار الواحد أكثر من متر ونصف، الأمر الذي يحول تلك البيوت إلى ما يشبه المغارات المحمية، ولو على سطح الأرض”.منذ 3 عقود على الأقل، اختفت تلك البيوت بالتقادم، ليس في المُدن فحسب، بل حتى في أقصى القرى البعيدة عن مراكز هذه المحافظات، فالسكان المحليون صاروا يفضلون البيوت الاسمنتية، لأنها أكثر توفيراً للنظافة العامة في البيت، كذلك لاختفاء العديد من اشكال النشاط الزراعي والرعوي، التي كانت تتطلب ذلك النمط من العمران.راهناً، ولأسباب كثيرة، على رأسها الارتفاع العالمي لدرجات الحرار وندرة الأمطار السنوية التي تساقطت خلال العام الماضي، بالإضافة إلى الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائي، بحيث تُصبح درجات الحرارة التي تتجاوز 45 درجة مئوية، مُستحالة التحمل في داخل البيوت الإسمنتية الحالية. فإن العديد من سكان هذه المنطقة صاروا يفكرون بإعادة تشييد تلك الأنواع من البيوت، خصوصاً في المزارع الشخصية على جنبات المُدن الكُبرى من المحافظة.يضيف البناء بيدروس في حديث مع سكاي نيوز عربية “منذ أواخر الربيع من هذا العام، تلقيت شخصياً مئات الطلبات من السكان المحليين في هذه المنطقة، والكثير من الطلبات تأتي من العائلات التي تملك بيوت اسمنتية كبيرة، وتسعى لامتلاك غرفة طينية أو اثنتين في فسحات بيوتهم، ليلجئوا إليها أثناء موجات الحر الشديدة”.ويتابع: “وتكلفة الغرفة الواحدة من هذا البيت لا تتجاوز 3 ملايين ليرة سورية، أي ما يعادل ألف دولار أميركي، وهو مبلغ يبدو متيسراً لكل الفئات الاجتماعية من أبناء المنطقة”.
ويمضي قائلا: “بعض البنائين والمهندسين من أبناء المنطقة طوروا طرائق جديدة للبناء، بطريقة تسمح بالحفاظ على الخصائص العضوية للطيب في البناء، إلى جانب حماية النظافة العامة في البيت. يجري ذلك عبر تسوير كامل جداران الغرف، داخلاً وخارجاً، بطوب القرميد الأحمر، الذي هو بدوره مادة ترابية، لكنه معالج عبر درجات عالي من الحرارة داخل الفرن، مما يحولها إلى شكلاً إلى ما يشبه الطوب الاسمنتي، لكن بمواصفات الطوب الترابي”.في حديثه مع سكاي نيوز عربية، يشرح المهندس المعماري رامان ديرشوي إمكانية عودة سكان المنطقة للبيوت الطينية “لا يبدو ذلك مطروحاً في المُدن، فالعمران الإسمنتي الكثيف داخلها عامل مانع لذلك. لكن الأمر في القُرى يجري بشكل يومي منذ قرابة العامين على الأقل. لكن المشكلة هي في عودة السكان إلى نوع واحد من العمران الطيني، الذي تعودوا عليه تقليدياً”.ويضيف “في وقت تطورت فيه أنماط المعالجة الفيزيائية والصناعية لمادة التراب المخلوط بالتبن، لدرجة أنه يُصعب التمييز بينها وبين الأنواع الاسمنتية من الطوب والبناء من حيث الشكل والحفاظ على النظافة والمتانة، حتى أنه يمكن بناء أكثر من طابق طيني واحد من هذه الأنواع المعالجة من الطين. وفوق ذلك فإنها ترابية الخصائص، أي أبرد صيفاً وأسخن شتاء”.