عادل الباز يكتب…. خالد وفريد.. والأفق المسدود (1)

الأسبوع الماضي حظيت مقالتان بنقاش واسع فى الأسافير، وهما مقالتان جديرتان بالنقاش، لأنهما تكشفان المأزق الوجودي والأفق المسدود الذي وصلنا إليه، كما تشيران إلى أن الخروج من النفق الذي نحن بجوفه الآن بما يقدمانه من مقترحات؛ ليس صعباً فحسب، بل مستحيل، المقال الأول (25 ديسمبر ومابعدها)، كتبه الأستاذ خالد عمر يوسف، والثاني (إفعل الآن) للأستاذ أمجد فريد، كتبه فى مجلة الفورين بوليسي الأمريكية الشهيرة.
2
يشرح الأستاذ خالد فى مقاله موقف المعسكرين المتصارعين، ويشير إلى التصدعات التي يعانيها كلاهما.. الأول معسكر الانقلابيين، الذي استدل علي تصدعه بالعنف المبالغ فيه الذي يتصدى به للمظاهرات، على خلفية سوء ظن وتربص الانقلابيين ببعضهم، إضافة إلى إغلاق الكباري وقطع الاتصالات.
هنا يخطئ خالد القراءة، فمعسكر الانقلابيين يبدو أكثر وحدةً من أي وقت مضى، إذ أدركوا جميعاً أن مصيرهم واحد، فمتى نجح الثوار فى الشوارع فى العصف بهم، فمصيرهم معلوم، لذلك لم يعودوا متحدين فحسب، بل إن مستقبلهم ومصيرهم المشترك يحتم عليهم خوض المعركة حتى نهايتها، مهما بلغ سقف تلك النهاية، كما إن المعسكر نفسه يستند إلى قاعدة متماسكة في وجه قوى تعتبر المنظومة الأمنية كلها أنها تستهدفها في وجودها، وتسعى إلى تفكيكها وليس إخراجها من السلطة فحسب، الموضوع الآن ليس قضية جنرالين تتم الإطاحة بهما بذات سيناريو ابن عوف وتنتهي الحدوتة، إذ إن المؤسسة الأمنية كلها ترى أن القوى المدنية؛ واليسارية بالذات تتربص بها، والقيادات العسكرية تغذي ذلك الفهم في مخاطباتها لتحصد أعلى قدر من التماسك الداخلي، ولكن هب أن ذلك التماسك اهتز بضغط الشارع، وخرج من المؤسسة العسكرية من يطيح الجنرالين، ما هو السيناريو المتوقع في اليوم التالي؟
تسليم السلطة؟
لمن؟
للحزب الشيوعي أم للجان المقاومة، أم لقوى الحرية والتغيير (المجلس المركزي)، أم للحرية والتغيير (الميثاق الوطني)؛ هل تري يا أستاذ خالد المأزق من تلك الزاوية؟
إليك زواية أخرى ترسمها حقائق على الأرض، تبدو أكثر وضوحاً لكنها تغيب عن الكثيرين، وهي طبيعة القوى التي تصارعها تيارات الثورة المختلفة حالياً، الذين يديرون المشهد الآن في معسكر الانقلابيين ليسوا قوى سياسية محترفة للعمل السياسي، وليس لهم تاريخ كما ليس لهم مستقبل، هم وحلفاءهم لا يتوافرون على الحد الأدنى من الوزن السياسي المعتبر، مع كامل الاحترام، تلك القوى سيطرت على المشهد الآني بحكم الصدفة والمقادير، وأكثر ما يهمها فى اللحظة الراهنة حماية نفسها .
الأحزاب السياسية يمكن أن تفقد السلطة، وتنسحب من الملعب لزمن يطول أو يقصر، ولكنها تظل فى اللعبة السياسية أملاً فى فرصٍ جديدة بالمستقبل، كذلك فعل الحزب الشيوعي الامة فى سبعينيات القرن الماضي ، وهو عين ما يفعله الإسلاميون حالياً، هزيمة مؤقتة، يعقبها نهوض للمصارعة في المعترك السياسي ولو بعد عقود.. أما القوى التي لا تاريخ ولا مستقبل لها فهي تستميت فى الدفاع عن سلطتها (يا قاتل يا مقتول).. ذاك حدود فهمها للصراع السياسي.
3
فى المعسكر الآخر توجد القوى المناهضة للانقلاب؛ (لجان المقاومة وقوى الحرية والتغيير والحزب الشيوعي والحركات المسلحة غير الموقعة على سلام جوبا ومجموعات مدنية أخرى)، يرسم الأستاذ خالد مشهداً غرائبياً فيقول: (هذا المعسكر أيضاً يفتقر إلى الوحدة بين صفوفه، ويتبنى بعض أطراف الحزب الشيوعي فيه خطاً منفرداً، عبّر عنه صديق يوسف في حواره مع (اليوم التالي) قبل يومين، يقوم على إبعاد كل مكونات الحرية والتغيير تماماً، وإقامة “مركز موحد” وصفه صديق بأنه يتكون من “القوى الأكبر في الشارع اليوم وهي لجان المقاومة، والمنظمات الديموقراطية المتعددة، في العاصمة والأقاليم، وتجمع المهنيين ، والاتحادات واللجان والأجسام الثورية الحية”.. من الواضح أن المركز الذي عبر عنه صديق يوسف يقوم على أن تكون للحزب الشيوعي فيه اليد العليا بطرق متعددة، وهو أمر مشروع لو اتبع وسائل نظيفة، تقوم على عرض الفكرة والنقاش للإقناع بها، ولكن للأسف فإن ذلك المشروع يُعبَّر عنه بوسائل مدمرة، تقوم على السعي لإقصاء أطراف أخرى من ذات المعسكر عبر شيطنتها، وتسميم الأجواء وتعطيل الوصول لتوافق بين القوى المناهضة للانقلاب بإثارة التناقضات في صفها).. انتهى.
الحقيقة أن الصراع داخل ذلك المعسكر ظل مستمراً منذ سقوط الإنقاذ وحتى اللحظة، واستخدم فيه الحزب الشيوعي تكتيكاته المعهودة تاريخياً، المتمثلة في توظيف واجهاته المتعددة، وقدم في الشارع وأخرى داخل الحكومة، في محاولة للسيطرة على الشارع والحكومة معاً.
سيطر الحزب الشيوعي على أكثر من نصف مقاعد التنسيقية العليا للجان المقاومة، تاركاً الأحزاب والحركات المسلحة والعسكر وقوى الحرية والتغيير للغرق فى مشاكل الدولة والصراعات اللامتناهية بينها، وظل يعمل على فرض سيطرته على الشارع، وحينما خرجت قوى الحرية والتغيير من السلطة إلى الشارع معتقدة أنه شارع الثورة زمان، والذي كان بمقدور ها أن تحركه، لم تجد سوى المطاردة واللعنات، كما حدث لخالد عمر نفسه، وإبراهيم الشيخ أيقونتا الثورة فى زمان مضى، ووجدت العم صديق يوسف يسيطر علي لجان المقاومة، ويرسم المشهد فى الشارع، محدداً لقوى الحرية والتغيير مستقبلها بطريقة ساخرة ومستفزة.
4
ما المخرج الذى يقترحه خالد من مأزق تصدع المعسكر المناهض للانقلابيين؟
يقول خالد: (الطريق إلى الأمام الآن أوضح ما يكون.. نحتاج مركزاً موحداً يتوافق على رؤية سياسية لهزيمة الانقلاب، والشروع في انتقال مدني يقود لانتخابات حرة ونزيهة.. يقوم ذلك المركز على علاقة تنسيقية بين مكوناته، لا تذوب فيه جهة، ولا تهيمن أو تسيطر جهة.. نقاط التوافق داخل الجبهة المناهضة للانقلاب واسعة للغاية، فقط نحتاج لإرادة غالبة، تنجز تلك الخطوة وتعزل مخططات الانقلابيين، التي ترغب في تفتيت الوحدة.. يمكننا ذلك.. فعلتها قوى شعبنا الحية في أكتوبر وإبريل وديسمبر بوحدة صفها وتنظيمها وستفعلها الآن، وهي مزودة بقوة شعبية هائلة، صنعتها ثورة ديسمبر المجيدة).
تلك الأماني لا يعرف لها خالد طريقاً إلا تفاؤله بالماضي الذى توحد فيه السودانيون وجرى إنجاز ثلاثة ثورات.
هنا يجدر بنا أن نذكر الأستاذ خالد أن تلك الوحدة منعدمة حالياً، فقوى الحرية والتغيير نفسها انقسمت على نفسها، بعضها فى معسكر العسكر، والأخرى في الشارع، وحتى الموجودة في الشارع منقسمة على نفسها، وهو ما لم يحدث من قبل، لذلك يبدو أن الرهان على وحدة قوى الثورة فى هذه اللحظة التاريخية مستحيلاً، كما أن انحياز القوات المسلحة إلى الشارع فى الوقت الذي يتم فيه تخوينها وتهديدها بالتفكيك لا يبدو معقولاً، يحتاج الأخ خالد ومن هم فى معسكره إلى البحث عن مخرج بعيداً عن أفقٍ تسُدُّه شعارات لا تفاوض لا شراكة لا شرعية، ويبدو أن حزب الأمة القومي بدأ فى خلخلة شعارات الشارع تلك، بالنظر إلى خريطته التي طرحها مؤخراً، وسنأتي على التعليق عليها فى مقال آخر.
أكثر ما أثار انتباهي وأعجبني فى مقال الأستاذ خالد عمر اعتماده على شعبه، فجماهير الشعب هي التي تصارع الانقلابيين في الشارع، وهي التي عليها التكلان.. لا تنتظر أحداً، أو غودو يأتي من الخارج لنصرتها، فالصراع داخل الوطن بين القوى الوطنية مقبول ومفهوم.
اما استدعاء المجمتع الدولى ودق الطبول والتحريض على التدخل من الوهلة الأولى كما فعل الأستاذ أمجد فريد فى مقاله المذكور أعلاه لا يليق بمثقف، ولا بقائد سياسي، مهما بلغت الحاجة للمجتمع الدولي