يظل الأسبوع الأخير من مارس من كل عام مناسبة حزينة تؤرخ لمذابح الجزيرة أبا وكربلاء ودنوباي مارس 1970م فضلا عن الخسة والإغتيالات بالكرمك.
وقد سجل التاريخ الوطني هذه المخازي كجرائم حرب ظلت وستظل تطارد تحالف القومين العرب والشيوعين إلى أن يتم القصاص للضحايا.
بدء حصار الجزيرة يوم 26 مارس واستمر القصف من بعد صلاة الجمعة 27 مارس لمدة أربعة أيام لم تتوقف ليلا ولا نهارا وفي يوم 29 مارس 1970م خرج الأنصار من مسجد الإمام عبدالرحمن للتنديد بالقصف والحصار. فتم استباحة دمائهم وهدم أجزاء كثيرة من المسجد على أطفال الخلوة والمصلين. وفي نهاية شهر مارس تم إغتيال الامام الهادي المهدي والشهيدين سيف الدين الناجي ومحمد أحمد مصطفى.
وكنت قد وثقت لهذه المجازر في منتصف الثمانينات ونشرت ما أخذت من شهادات حية من الضحايا ومن الفاعلين في كتاب فيه التفاصيل ذات الصلة. ولاشك استجد الكثير مثلما تم الفصاح عن معلومات من ضالعين في التدبير الانقلابي وفي المجازر ذات الصلة. فقد أورد مثلا أبو القاسم حاج حمد وهو من الضالعين في الانقلاب وقائع أكدت بأن إنقلاب 25 مايو 1969م كان أغلبه تدبير أجنبي موجهاً ضد الأنصار. ومثل أبو القاسم معه الكثير من الضالعين. وفي مناسبة الذكرى السنوية، يهمنا أن نورد أي إضاءات جديدة لأن الذين ارتكبوا هذه المجازر، كانوا قد خططوا لها مع سبق الارصاد والترصد منذ أول يوم للإنقلاب. فقد تبين الآن أنه أن إعلان بابكر عوض الله رئيس وزارء الانقلاب في سبتمبر 1969م ، حين قال بأن السودان لا يمكن أن يحكم
(بدون شيوعيه) . كان هذا الإعلان قصد به استفزاز المعارضة بقيادة حزب الأمه والأنصار .
أعقبت إعلان بابكر عوض الله مظاهرات قادها السادة الخاتم عدلان والتجاني الطيب ورفعت المظاهرة الأعلام الحمراء ورددت معاني مستفزة لكل متدين مثلما رددت أناشيد تنادي بذبح الأعداء بالعرض والطول.
ورداً على هذه الاستفزازات اكتفى حزب الأمة والأنصار بقيادة الامام الهادي المهدي بإصدار بياناً يندد بهذا التوجه الخطير، وأكد البيان على حقائق الواقع بأن الشعب السوداني لن يقبل بأن يتحول لجمهورية شيوعية. ولأن الانقلابيين كانوا يبحثون عن مبرر، جاء رد فعل تحالف العروبين والشيوعين ، عن زيارة استفزازية للجزيرة أبا ومنطقة النيل الأبيض على رأسها قائد الانقلاب . هتف مواطنون في وجه قائد الانقلاب في بعض المناطق وتم القبض عليهم. ولكن انتهز التحالف الانقلابي الفرصة وشرع إعلامه الشمولي يلفق في التهم بأن الأنصار حاولوا إغتيال
(جعفر نميري) وأن الامام الهادي يعارض السلطة (الدستورية) وهي سلطة إنقلابية. ثم قفز إعلام التحالف العروبي الشيوعي، لمربع اعتبر فيه الاعتصام السلمي في الجزيرة أبا مارس 1970م تمرد مسلح .وبموجب ذلك اجتمع قائد الانقلاب وكلف السفاح (الصغير) زين العابدين محمد أحمد عبد القادر بتدبير (ارتكاب) مجزرة أبا التي ارح ضحيتها الآلاف من الأبرياء .
هناك حديث ممجوج يحاول القفز على هذا التربص الشيوعي ، يقول بأن الأنصار كانوا مسلحين، ومع أن هذا فيه تجاوز للوقائع التاريخية ويرقى للتلفيق وبناء روايات الفك. إلا أنني أشير إلى ما صرح به وزير دفاع الانقلاب خالد حسب عباس في حديث لصحيفة البيان الإماراتية بتاريخ 6 نوفمبر 1999م، بأن قال
( إن أول حزب جمع منه فاروق حمد الله السلاح هو الحزب الشيوعي) .
وتكفي هذه الشارة دليلا على أن الحزب الشيوعي كانت له أسلحة وكوادر مدربة على استخدامها ولهذا حين يتهم الأنصار فإن هذا الحديث من نوع رمتني بدائها وانسلت. ومن جهة يستذكر الجميع أن حركة 25 مايو 1969م ، بعد نجاح إنقلابها قامت بحل جميع الأحزاب والنقابات وشرعت تفتش المنازل والقرى ثم أرسلت العيون والجواسيس إلى الأسواق وقادت حملة واسعة لجمع السلاح بما فيه السلاح الأبيض والسيوف. وقررت إقامة مركز شرطة في الجزيرة أبا. فقال عمدة الجزيرة أبا أنه يتعهد أمام وزير الداخليه وأبو القاسم محمد إبراهيم بالمسئولية عن أي أمر يحدث في الجزيرة أبا. وعندما أرسل الانقلابيون أحمد أبو الدهب لدك الجزيرة أبا، تعلل بموضوع التفاوض فتم تسليمه نسخة من مضامين محضر اتفاق تم بين الإمام الهادي المهدي ووفد الانقلابين وملخصه مطالب مدنية وسلميه:
إزالة الواجهة الشيوعية من الحكم.
– إلغاء ميثاق طرابلس.
-إطلاق سراح المعتقلين السياسيين.
-إجراء استفتاء علي مشروع دستور 1968م
وأقسم أبو الدهب اليمين الغموس على إبلاغ قادة الإنقلاب بهذه المطالب. وغادر الجزيرة أبا و.لم يطلق عليه أحدا الرصاص مثلما لم يلحظ أي سلاح امتلكه الأنصار وأي سلاح لاحق إنما كان من باب ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) (الحج 39) .
هذه الحقائق الدامغة ينبغي أن لا نفر من امامها وعلى الأحزاب التي تورطت في الدماء وولغت فيها أن تعترف بجرمها وتقر بتربصها بجماعة سودانية لم تفعل شيئا سوى ممارسة حقها في الحرية والعدالة وأن تعيش في وطنها. ولهذا سيظل الضحايا يطالبون بالعدالة والقصاص مهما تقادمت الأزمان وتطاولت الآماد.
إن الاقتصاص للضحايا يعالج جروحا وطنية غائرة ستنكأ نفسها كلما ذكرت هذه المجازر أو جرى الحديث عنها فضلا عن مرور ذكراها السنوية.
الحديث عن العدالة والاقتصاص للضحايا ليس إنتقاما وتشفيا وفشا للغبائن وإنما لمنع تكرار هذه الماسى. فقد زينت السلطة لتحالف اليسار بأنهم خالدون فيها ابداً ، وأن دوام السلطة لا يتم إلا بسحق المعارضة وإبادة معقل المعارضة أي الأنصار وإغتيال أمامهم الهادي وزملائه الخال محمد أحمد مصطفى وسيف الدين الناجي.
وعود على بدء جاء إنقلاب مايو شيوعي الهوية والهو ى. وحاول بكل السبل تجريع الشعب السوداني شعارته وشيوعيته او لتوجهات الماركسية فرفضها الشعب وسيرفضها.
ثم حاول الإنقلاب لازالة المعارضة ممثلة في الامام الهادي المهدي لأنه رفع سلمًا أمام الانقلاب خمسة لاءات .
لا سلام بدون إسلام ولا للشيوعية في السودان ولا سبيل لمغادرة خندق الديمقراطية ولا للتدخل الأجنبي في القرار الوطني ولا لاعتقال الشرفاء وفق هوى الحكام .
هذه اللاءات لا توجب إبادة من يرفعها وهكذا بفضل دماء الشهداء اكتسبت صفة الاستدامة والخلود وستظل .
وإن كان من مواعظ تهدى للذين شاركوا في مجازر أبا وودنوباوي ، فإن كل من ساند الانقلاب انتهى في بطنه فقد ابتلعهم اليم وغدر بهم السفاح في تأكيد لقوله تعالى
( ولا يحيق المكر السيء إلا باهله)
وفي تأمين على الأثر (من أعان ظالما سلطه الله عليه) .