كيفما كان الحال في محيط العالم ومحيطنا الفقير بهذا الوباء اللعين، لا حيلة لنا سوى أن نتسكع في براح هذا الإسفير ونُخالط الآخرين بأفكارهم في السطور المكتوبة هنا وهناك، ويوماً بعد يوم يزداد الإسفير ضجيجاً.
أستهل ما يلي من سطور ببعضٍ من مقولات المفكر علي الوردي. ومن أقواله المأثورة: “إننا اليوم في أشد الحاجة إلى إصلاح الأذهان قبل البدء في إصلاح البلاد”.
فسبحان من خلق هذا الكون!!، ما أشبه ليلتنا هنا بالماضي الذي عاش فيه المفكر، فإن الوقائع ستظل متشابهة ما دام الداء واحد، حيث يتجلى إحدى أشكال الداء العُضال في مقولته: “رأيت ذات يوم رجلاً من العامة يستمع إلى خطيب وهو معجب به أشد الإعجاب،
فسألته ماذا فهمت؟، أجابني: هل أستطيع أن أفهم ما يقوله هذا العالم العظيم!!”
وأظن كل الظن (ولا أعتقد أن ثمة إثمٍ بعد هذا الظن) أن المقولة الأخيرة تشرح حالنا الذي نحن عليه الآن، ها نحن نناضل لأجل الأمل والحلم المنشود، وضجيج الأواني الفارغة تُحيط بآذاننا وأذهاننا ما دام هذه العقول تنتشر بيننا كانتشار النار في الهشيم.
كيف نقارع؟
عقول تُمجّد الوعّاظ فوق المهنيون وأصحاب الإختراعات والمُصنّعون وكل من لديهم لمسات تخدم البشرية في طريق سلم والرخاء، كيف لنا أن نُقارعها؟، هذا السؤال المحير الذي يجعلك أحيانا تعتقد بأن الجاهل يمكنه أن يهزمك بجهله وغباءه.
ليس هنالك سم على عقول البشرية أكثر من من تلقينهم النصوص وتفسيراتها المحدودة، وهنا يُزرع الوهم الذي يجعل منك لا شيء في مقابل ما يتم تلقنه لمثله هذه العقول، إنها العقول النصوصية بامتياز.
عقول تم استلابها عن حاضرها عندما تم تمجيد أمتها الغابرة التي خلت قبل 14 قرنا أو ما يقل بقرنين من الزمان تحت مسمى السلف الصالح. عقولاً لا تفهم في الدين سوى نصوصها المذهبية الضيقة التي تجعل منهم مجرد قطعان لا أفق لهم في هذه الحياة.
عقول تم اغتيال شخوصها بامتياز في مقابل أولئك الوعاظ الذين يفتون فيما يملأ بطونهم على دماء البشر وسلبهم وإفقارهم.
إن أرادت هذه العقول أن تفكر، فلا تفكير لها سوى أن تدحض كل شيء في مقابل أن تنتصر لما يحفظونه عن ظهر قبل من ألسنة الوعّاظ وشيوخهم الذين يفتون لأفضلية مذهبهم الذي هو الدين الصحيح.
والحقيقة أنها بتجلياتها في إلقاءها لأفكارها التي تعفّنت مثل الجيف؛ لا تُبدي لنا سوى صبيانيةٍ مثيرةٍ للشفقة. فهذه الصبيانية تنبع من هيئة رجلٍ قد بلغ أشدّه في منتصف العمر؛ تكاثفت لحيته لتغطي نصف عنقه على الأقل.
عقول بنصوصيتها لا تُجيد سوى تلك المغالطات الطفولية؛ تجعلها تتفنن في دفن رؤوسها في الرمال، حتى يُصاب النعام بالحيرة منها متسائلة “كيف لمخلوقات قادرة على فعل كل شيء تقلدها وهي ضعيفة الحيلة!!”.
لا يمكنني أن أقدم سوى الشفقة على هؤلاء الضحايا الذين لا حيلة لهم، لكن وبالمقابل لا أمان لأعمى البصيرة. ذات يوم وقع أحد المفكرين ضحيةً لقاتلٍ متعصب. فسأل القاضي القاتل: “لماذا قتلته”،
قال القاتل: “لأنه كافر”، رد عليه القاضي: “وكيف عرفت أنه كافر؟”، قال القاتل: “لأن الشيوخ يقولون أنه كفر بكتبه التي ألفها”، فسأله القاضي: “ماذا قرأت له؟”، أجاب القاتل: “أنا لم أقرأ له شيئاً!!”.
إن الوعّاظ الذين يغرسون في الناس مبادئ التفرقة لا وصف لهم سوى أنهم “كهنة”. والكهنة في وعي الجمع ارتبطوا بالكذب والاحتيال على العامة والتحريض على القتل والتفرقة بنصوصٍ مقدسة.
وها قد جاء الوقت ليثور الناس على هؤلاء الكهنة. هذه الثورة تجلت في انتفاض العامة في المساجد. ثائرٌ صرخ ذات يوم في منتصف المسجد عند خطبة الجمعة متحدياً الخطيب الذي كان أحد شيوخ السلطان؛
قائلاً: “قُم يا عبد الحي واخرج بنا من هذا المسجد”. هنا تجلت الثورة ضد الكهنة، لكنها لم تُنهِ هيمنتهم على عقول الناس بعد.
هل سيكون هذا الحرب بالسيوف كما يظن البعض؟
لو عاد الأنبياء يوماً، لكانوا قد أعلنوا الحرب على الكهنة ومعابدهم، كما قالها عبدالرزاق الجبران في كتاب لصوص الله. هل سيكون هذا الحرب بالسيوف كما يظن البعض؟، لا أظن ذلك، وإنما حربهم الفكر الذي يلعن وجودهم، ويحرر الناس نحو السلام وتعمير الأرض، لا نحو الاقتتال والتفرقة.
متى كان لدين الله حراساً يسهرون الليالي ببنادقهم؟، هل كان المؤمنون يدافعون عن الله، أم أن الله يدافع عن الذين آمنوا؟. هذه بديهيةٌ تعامى قطيع الوعاظ عنها بنصوصيات ضاقت بأفقهم، فباتو يؤمنون أنهم يدافعون عن الله ولو بالكذب والبطش والسب واللعن، فتأمل!!.