عندما تتعارض الأجندات والغايات، فإن النجاح والفشل يصبحان بكل تأكيد مسألة نسبية ومختلفا عليها. فولكر بيرتس مستشار مبعوث الأمين العام للأمم المتّحدة لسوريا خلال الفترة 2015– 2018، لم يكتفِ بـ»نجاحه» في استدامة الأزمة السورية ونتائج عمله فيها، حيث غدت أثرا بعد عين. ومنذ حينٍ جاء فولكر إلى السودان بطلب غريب من رئيس الوزراء المستقيل عبدالله حمدوك الموظف الأممي السابق. والرجل كفانا الله شرّه متخصص في تنظيم الثورات وترتيب الأحداث لتغيير الأوضاع والمسؤولين في المنطقة وصناعة الفوضى وفقا للأجندة الدولية الشريرة.
تحت غطاء مهمة دعم المرحلة الانتقالية في السودان وتحت طائلة الفصل السادس، جاءت جحافل الأمم المتحدة إلى الخرطوم ضمن بعثة سميت اختصارا بـ»يونيتامس» مكونة من 269 موظفاً مدنياً، لها بالإضافة لمقرها بالعاصمة، نحو أكثر من 7 مكاتب إقليمية تغطي معظم أنحاء البلاد المترامية الأطراف. وكان لابد أن تضع البعثة لنفسها أهدافا برّاقة، مثل مساعدة الحكومة في الانتقال الديمقراطي، والمساهمة في بناء السلام، وإعداد الدستور الدائم، وإجراء التعداد السكاني، والإشراف على إجراء انتخابات بنهاية الفترة الانتقالية.
فولكر الذي ظل يتحرك ويلتقي بحرية بالفعاليات السياسية، يصفه المعارضون للتدخل الأجنبي في شؤون البلاد ساخرين بحاكم عام السودان، مثلما كان للبلاد حاكم عام بريطاني في حقبة الاستعمار. قبل عام وصل الألماني فولكر الخرطوم بخيله ورَجلِه مُستهلا حقبته «الاستعمارية» في البلاد، لكن بعد عام من فشله بالمعايير الوطنية ونجاحه بمعايير الأجندة الدولية، ضاق الضمير الشعبي الحيّ به ذرعا، حيث نظمت قبل شهر مجموعات أهلية وسياسية ومجتمعية مسيرة أمام مبنى «يونيتامس» بالخرطوم، للتعبير عن رفض تحركات فولكر التي لم تزد الأزمة السياسية إلا تعقيدا وتأزيما. ومن المنتظر أن يُنظّم في الأيام القادمة ما سمي بمجلس حكماء وشباب ونساء السودان مسيرة مماثلة لمناصرة القوات المسلحة والقوات الأمنية الأخرى، ورفض التدخلات الأجنبية في البلاد، ويقول منظمو هذه التظاهرات أنهم يمثلون ما وصفوه بصوت الأغلبية الصامتة في السودان.
ولعل الحصار الشعبي الرافض للبعثة الأممية سيضيق عليها يوما بعد يوم، لكن ليس من المنتظر أن يغادر فولكر «مُلك السودان» الذي أتاه يجرجر أذياله بسهولة، ما لم يتأكد من اكتمال تدمير وتفكيك الدولة السودانية. ولحين الوصول إلى هذا المبتغى سيزحم فولكر ومن راء أكمته ما ورائها، بمبادرات سياسية رنانة وذات بريق تستنزف الوقت وتصك الآذان، وتزيد أوار الصراعات السياسية حتى تتحول إلى صدام مسلح وحينها فقط سيحزم فولكر حقائبه ويعلن بكل جرأة فشل مهمته، فالتدمير حينها سيكون ذاتيا وبدون (فولكرية) طالما أصبح لا صوت يعلو فوق صوت السلاح.
اليوم العديد من جيوش الحركات المسلحة والمتمردة سابقا تمركزت داخل العاصمة الخرطوم بعد اتفاق جوبا للسلام والذي لم ينص على تموضعها الحالي، بل نص على تفكيكها ودمجها في الجيش الوطني وهذا ما لم يتم بعد مضي نحو عامين على ذلك الاتفاق. بيد أنه في الشق السياسي من الاتفاق نال قادة الحركات المسلحة مواقع سياسية رفيعة على المستويين الاتحادي والإقليمي. خلال الأسابيع الماضية وفي غمرة توترات الشارع زادت المخاوف بعد إطلاق حراس يتبعون لحركة مسلحة، الرصاص الحي في الهواء لتفريق محتجين عند اقترابهم من مقر الحركة بوسط أم درمان، إحدى المدن الثلاث التي تشكل العاصمة الخرطوم. وقال المحتجون أنهم لم يستهدفوا لا الحركة ولا مقرها، وإنما كانوا يمرون قرب المقر بشكل سلمي. ولعل خطورة الوجود المسلح تنبع من اندلاع شرارة العنف المسلح نتيجة سوء فهم ما، خاصة وأن جنود هذه الحركات لم يخضعوا إلى تدريب عسكري نظامي يمكنهم من التعامل مع الكثير من المواقف خاصة داخل المدن.
إن تفكيك السودان تم بنجاح في مرحلته الأولى بفصل جنوب البلاد في العام 2011. وقد اعترفت المسؤولة الأمريكية السابقة سوزان رايس بذلك في كتابها (Tough love) الصادر حديثا بأنها وآخرين وراء انفصال جنوب السودان وفرض العقوبات الأمريكية ووضع البلاد في قائمة الدول الراعية للإرهاب. أما السفير البريطاني السابق في الخرطوم، اعترف بشكل سافر بقوله: «كان علينا العمل على تغيير حكم عمر البشير، رغم أن التدخل الدبلوماسي في شؤون الدول، غير محبذ وغير مرحب به. لكنني فخور بما أقدمت عليه من أجل هذا التغيير. وقد أخذت زمام المبادرة، لأن هذا التغيير، يتوافق ليس مع مصالحنا فقط، وإنما مع قيمنا في بريطانيا. لذا اتخذنا الخطوة اللازمة في إبريل من أجل الانتقال السياسي ودعم الاعتصام».
لا يبطل مخططات فولكر سوى أن ينبذ السودانيون خطاب الكراهية فيما بينهم، وأن يلفظوا كذلك نهج المعادلة الصفرية تجاه الآخر، وألا يرتبط مكسب جهة سياسية ما بالضرورة بخسارة الخصم. فالأسوأ حين يعتقد صاحب ذلك النهج الاقصائي أن ذلك لابد أن يكون مُطلقا أي مكسبًا كاملا مقابل خسارةٍ كاملة. الحالة المغايرة للمعادلة الصفرية هي حالة التوازن في الحقوق والواجبات بين الأطراف وهي سبب رئيسي في تحقيق الاستقرار في مجتمع من المجتمعات. على السودانيين أن يدعموا جيشهم الوطني فهو الذي يجعل بين الوطن ومخططات تفكيكه سدا، فليعينوه بقوة يجعل بينهم وبين الضياع ردما. ولا شك للجيش مهام أخطر وأسمى من خوض غمار السياسة بيد أن الذي يكفي الجيش رهق السياسة، تمكن الجميع من الوصول إلى شاطئ انتخابات نزيهة وكلمة سواء بينهم.
إن الأصل الفلسفي لقيام الانتخابات يتمثل في رغبة الفصل بين الحاكم كشخص، وبين السلطة باعتبارها وظيفة، ليصبح الأساس في ممارسة السلطة التفويض الشعبي بما يترتب على ذلك من تقييد لسلطات الحاكم، استنادا إلى مبدأ حكم القانون. فالانتخابات وسيلة تمكن المواطنين من المشاركة، في عملية اتخاذ القرارات. وعن طريقها يمكن لهم قبول أو رفض الخيارات السياسية، وفي الوقت ذاته قبول أو رفض من يطرحون هذه الخيارات. وطالما الهدف إرساء الديمقراطية فالانتخابات تأتي أولا لا تسبق الديمقراطية بأي حال من الأحوال.