كما قال فرانسيس فوكوياما في كتابه “نهاية التاريخ والإنسان الأخير” فإن “أولئك الذين يستمر سخطهم سيظلون دائماً قادرين على أن يبدأوا التاريخ من جديد”. ولأن الأحداث المصاحبة لتكوين “الحركة الشعبية لتحرير السودان” تتغير على الدوام ولكن وفق وتيرة متشابهة بين الصراعات التنظيمية والميدانية والتوافق المحدود وإن اختلف الزمان، فقد استطاعت كذلك أن تحافظ على حال الاتصال التاريخي عند مشترك الانقسامات.
أصدر مالك عقار رئيس “الحركة الشعبية لتحرير السودان- قطاع الشمال” بياناً قال فيه “إن الحركة الشعبية لم توفد أياً من أعضائها لاجتماعات (المجلس المركزي للحرية والتغيير) المنعقد أخيراً، ومن يشاركون في اجتماعات التحالف المطالب بإسقاط النظام لا يعبرون عن مواقف الحركة وإنما يمثلون أنفسهم”.
وأكد البيان أن “الحركة الشعبية لتحرير السودان” لا تمثيل لها في “قوى إعلان الحرية والتغيير”، ما أثار أفرع الحركة في بعض ولايات السودان مثل نهر النيل والجزيرة والنيل الأزرق وشمال ووسط دارفور. وبناء على ذلك استنكرت تيارات الحركة الغاضبة إخراجها من “الحرية والتغيير” ببيان على الرغم من تعدد محطات نضالها القديم والجديد، وصولاً إلى مشاركتها في ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، باعتبارها من المؤسسين لـ”قوى إعلان الحرية والتغيير” عام 2019، ثم كانت أحد الموقعين على “إعلان قاعة الصداقة” في أغسطس (آب) 2021، كما اتخذت قراراً ضمن فصائل “الجبهة الثورية” في المؤتمر التداولي بمدينة الدمازين في ولاية النيل الأزرق في مارس (آذار) 2022 بالاستمرار في عضوية “الحرية والتغيير”. ووسط ازدياد ضغط تفسيرات بيان عقار كان على هذه التيارات الرجوع إلى التمسك بـ”اتفاق جوبا للسلام” الموقع في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2020، بين حكومة الفترة الانتقالية وفصائل “الجبهة الثورية”.
محركات الانقسام
قبل أن يحدث بيان مالك عقار هذا الشرخ في جسم الحركة، كتب قبل سنوات أن “لكل انقسام في حركة تحرر ما محركاته ودينامياته الخاصة، وأن “الرفاق” الذين ظلوا يقاتلون عدواً مشتركاً لعقود طويلة يقعون في النهاية ضحايا للانقسامات المدمرة لهدفهم الاستراتيجي ولتاريخ نضالهم”، وهذا يعني أن الانقسامات ظلت إحدى سمات الحركة وجيشها الشعبي منذ تكوينها الأول عندما كانت حركة مقاومة مسلحة مكونة من أبناء إقليم جنوب السودان وتمردت على الحكم المركزي في الخرطوم منذ خمسينيات القرن الماضي، ثم انضمت لها قيادات من منطقة جبال النوبة وإقليم النيل الأزرق وكانت رافداً للحركة الأم، واقترنت باسم الحركة (شمال) لأنها كانت تمثل شمال الإقليم الجنوبي القديم المستقل حالياً إلى دولة.
لكن بعد انتهاء الحرب الأهلية بتوقيع “اتفاقية نيفاشا للسلام” عام 2005، تداعت الأسئلة حول جدوى استمرار (الحركة شمال)، إذ كان مقبولاً استمرار الحركة الشعبية في الجنوب كفصيل سياسي، لكن وجودها في الشمال بعد انفصال الجنوب ثم إسقاط النظام السابق الذي كانت تحاربه فُسر بأنه للمحافظة على توازن جغرافي للحركات المسلحة، حتى لا ترجح كفة حركات دارفور التي تفوق جميع الحركات عدداً، وتبقى القضية الوحيدة المطالبة باقتسام السلطة والثروة ورفع التهميش عن كاهل الإقليم المنكوب بالحروب والأزمات الاقتصادية والنعراث القبلية والإثنية.
لذلك رأى بعضهم أن جوهر تكوين “الحركة الشعبية – شمال” يضرب بجذوره في الطبيعة المطلبية للحركات المسلحة، خصوصاً أن المساحات التي نشطت فيها إبان الحرب الأهلية ضمن الحركة الأم التي سعت إلى تجسيد إعادة صياغة الحكم بما يضمن تفكيك قبضة المركز على الأقاليم، وهي كذلك انعكاس لمرحلة من مراحل التكوين السياسي لدولة الجنوب، وقد يعزز الصراع عندها مطلب تقرير المصير أيضاً. وأن الفهم المتكرر لنشاط الحركة “المقاومة” يكمن في النظر إلى المفهوم وجانبه الصوري وحمولته المعنوية.
تبادل الاتهامات
مثل أي حركة مسلحة في البلاد، ولدت “الحركة الشعبية لتحرير السودان” في بيئة وظروف خمسينيات القرن الماضي، وغذاها الغبن التاريخي والسياسي ورافقتها مطالب وشكوى وصدامات وترضيات وانقسامات، وبما أن الزمن ليس ثابتاً، كما هذه التكوينات التي اتخذت من الانشطار سمة لها، فمن داخل الحركة الأم ولدت “الحركة الشعبية- شمال” التي تمثل إقليم النيل الأزرق جنوب شرقي البلاد، وهناك دارت معارك كثيرة بين الجيش السوداني وقوات الحركة التي كانت امتداداً للمعارك في الجنوب، والآن ينشط العنف القبلي فيما تتبادل تيارات الحركة الاتهامات بتأجيجه.
ومع التسليم بتكرار هذه الانقسامات، فإن هناك اختلافاً في طبيعتها خلال الفترات التاريخية السابقة، ولكن الثابت أنها بدأت من الجسم الحركي الأعلى ثم تكررت في وحداته الأقل. وفي عام 1983، وهو تاريخ التكوين الثاني للحركة، انشق العقيد جون قرنق دي مابيور عن الجيش السوداني، وقرر الانضمام إلى “حركة التمرد” ثم اتخذت اسم “الحركة الشعبية لتحرير السودان”. وفي تسعينيات القرن الماضي انشقت مجموعة من قيادات الحركة ضمت لام أكول ورياك مشار وكاربينو كوانين ووقعت “اتفاق فشودة للسلام” عام 1997، ثم “اتفاق الخرطوم للسلام”، وشاركت بموجب الاتفاقين في الحكم بعد مقتل جون قرنق في تحطم مروحية عام 2005.
أما الانقسام الأبرز فتمثل في التهديد الوجودي للحركة نفسها بعد استقلال جنوب السودان عام 2011، على أثر ذهاب الحركة حاكمة في دولة الجنوب بقيادة سلفا كير ميارديت، ثم انشقت عنها المعارضة بقيادة رياك مشار وآخرون. وواصلت “الحركة الشعبية – شمال” حربها مع النظام السابق في الشمال في معقلها في جنوب النيل الأزرق وجبال النوبة، برئاسة مالك عقار ونائبه عبد العزيز الحلو، والأمين العام وكبير مفاوضي الحركة مع النظام الحاكم في الخرطوم ياسر عرمان.
حرك عبد العزيز الحلو ساكن التشكيل الذي بدأ متسقاً، بالدفع باستقالته عقب اتهامه عقار وعرمان بتقديم تنازلات في ملف التفاوض تضر بمصالح أبناء جبال النوبة. وفي يونيو (حزيران) 2017، أقال “مجلس التحرير” كلاً من مالك عقار وياسر عرمان، وكلف الحلو رئاسة الحركة وأصبح عقار والحلو على رأس حركتين تحملان الاسم نفسه.
موقف مضطرب
أزالت الإجراءات التي فرضها الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان في 25 أكتوبر، الستار عن الموقف المضطرب الذي تتبناه “الجبهة الثورية” التي تضم مجموعة حركات هي الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار، و”حركة جيش تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد محمد نور، و”تجمع قوى تحرير السودان” بقيادة الطاهر حجر. وقامت هذه القوى المكونة لـ”تحالف كاودا” في جبال النوبة بالتوقيع على وثيقة أصدرتها “الحركة الشعبية – شمال” في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، من “حركة العدل والمساواة” بقيادة جبريل إبراهيم إلى “حركة جيش تحرير السودان” بقيادة مني أركو مناوي، و”حركة جيش تحرير السودان” بقيادة عبد الواحد محمد نور.
كان قادة بعض هذه الحركات قد انضموا إلى “مجلس السيادة الانتقالي” في مارس2021، أبرزهم مالك عقار والهادي إدريس والطاهر حجر وفقاً لترتيبات تنفيذ “اتفاق جوبا”، وحصلوا على مناصب سيادية ووزارية.
وإضافة إلى تبرير مشاركته في السلطة بأنها أتت في إطار تنفيذ اتفاق السلام وبند الترتيبات الأمنية وخطوة نحو إيقاف الحرب، اتخذ عقار موقفاً داعماً للمجلس العسكري ومنتقداً لـ”قوى الحرية والتغيير”، ما سلط الضوء على أغلب تصريحاته ومكن من رصد خطوط الانكسار والانقسام بين مكونات الحركة.
بعد إعادة تشكيل مجلس السيادة في 11 نوفمبر الماضي، عاد رئيس الحركة مالك عقار إلى منصبه عضواً في “مجلس السيادة”، ولكن مع تواصل الخلافات بينه ونائبه ياسر عرمان من واقع تباين موقفهما من إجراءات البرهان، وخلاف آخر حول البقاء في “تحالف الحرية والتغيير”.
تلاشي التكوين
كانت الحركة الشعبية تعمل وفق رؤية “السودان الجديد” لإزالة التهميش التنموي والتمييز الإثني والديني، ولكن طوال تاريخها لم تحل المعضلة بين المركز والهامش، وانحصر التغيير في الحدث الكبير بانفصال الجنوب، كإنجاز للجنوبيين الذين صوتوا لصالح الانفصال، وخسارة للشمال بفقدانه جزءاً مقدراً من مساحته، لذلك ينظر للحركة الشعبية شمال على أنها فرضتها ضرورة انتمائها القديم للحركة الأم وهي الآن نسخة غير أصيلة، وربما تعبر عناصر الانقسام هذه عن مدى فشلها.
في ظل توالي البيانات الرافضة لموقف عقار من تيارات داخل الحركة يتوقع أن تواجه مزيداً من الانقسامات، ربما يكون مصيرها أشتات تنظيمات مثل حركات دارفور. والفرق يكمن في أن هذه التحركات ستكون عدمية وأن دورها سينحصر في خلق وتصدير المشكلات.
هذه الأحداث ضمن سياقها الأكبر يرتبط بعضها بالآخر، ولكن الفرق بين نشاط الحركة في ظل النظام السابق والآن أنه كان يعترف بـ”الحركة الشعبية – شمال” ويحاول زعزعة تمثيلها لقضايا المنطقتين (النيل الأزرق وجبال النوبة)، ومع أنه نجح في إحداث انقسامات في جسدها فإنه لم يستطع الاستغناء عن تلبية مطالبها باقتسام السلطة وحصول عدد من أعضائها على مواقع وزارية وسيادية. كما أن العلاقة بين الحركة والنظام كانت تقوم على الاستقطاب السياسي الحاد لأن النظام كان يريد احتواء الجميع أمام توافق القوى السياسية حول الحركة، أما الآن فإن التشظي يضرب المكونين المدني والعسكري ويعلو تضارب المصالح وتناقض المواقف الثورية والعسكرية.
الحرب الأهلية التي جاشت خلال نصف قرن من الزمان، أدت في النهاية إلى انفصال جنوب السودان، ومع تمسك أعضاء “الحركة – شمال” بهذا الجسم ذي العقيدة العسكرية ذات المسحة اليسارية، فإنه يركز الآن على إبراز العلمانية علامة مفترضة للثورة، لكن تلاشي التكوين الأساسي للحركة ودخولها الموجة الثانية والثالثة في مكابدة الإخفاق بقوة، أديا إلى ضعفها الأخير من الداخل والانبعاث المفاجئ لأزمة كامنة ضمن انشقاقات صغيرة، لكنها موحدة ضد صعود أعضاء جدد على ظهر الحركة وهؤلاء شجبوا بدورهم تسلط القادة وعدوا تصرفاتهم للانفراد باتخاذ القرارات مناهض لروح الثورة