تحاول قحت أن تصوِّر مبادرة فولكر لجمهورها كـ”خيمة صفوان” سودانية تشبه تلك العراقية التي شهدت توقيع اتفاقية الاستسلام العراقية بعد الهزيمة في الكويت، ليحل فولكر محل المبعوث الروسي يفغيني بريماكوف الذي توسط لتوقيع الاتفاقية في خيمة في مدينة صفوان التي تقع على الحدود العراقية الكويتية، وليمثل المكون العسكري “قوات الاحتلال” المنهزمة المنسحبة التي تبحث عن نجاة ما تبقى من جنودها في أرض المعركة، وليمثل ممثلو الترويكا ( أمريكا، بريطانيا، النرويج ) ودول الاتحاد الأوروبي القائد المنتصر “نورمان شوارزكوف”، وبعد ذهاب حمدوك هناك أكثر من جلبي سوداني غيره، وأكثر من موفق ربيعي، وأكثر من عدنان الباجة جي، وبعد استكمال الاستلام سيتحول فولكر إلى بريمر (معدَّل قليلاً) ليتولى تفكيك الجيش السوداني، ليكتمل مشروع السيطرة الكاملة.. كل المؤشرات تقول إن هذا هو التصور المثالي عند قحت – المركزي، لكنه مع ذلك يظل هو سقفها الأعلى الذي تعلم أنه يصعب عليها، وعلى قوات التحالف، الحصول عليه، ولهذا تنازلت من سقوفها العالية وقبلت بالتفاوض الذي لا يشبه ما تم في خيمة صفوان .
من يتابع مواقف وقرارات وتصريحات الأطراف المختلفة بخصوص مبادرة فولكر سيخرج بعدة استنتاجات :
▪️ إما أن المكون العسكري لم تكن لديه خطة واضحة لما بعد قرارات التصحيح، أو إنه فوجئ بمتغيرات لم تكن في حسبانه أفشلت الخطة، ولذلك فشل في تشكيل حكومة بمنأى عن قحت -المركزي .
▪️ المتغير الأساسي الذي صنع هذا الفشل هو الضغوط الكبيرة من الخارج، وقابلية المكون العسكري للاستجابة لها. وهذه القابلية نتجت من سياسة مسابقة المكون العسكري لقحت على إرضاء الخارج .
▪️ قحت تثق في الفوز في هكذا منافسة لأصالة وعمق تبعيتها للخارج، وهي تعلم قايلية المكون العسكري للضغوط، ولهذا ركزت على سياسة سفارة سفارة كعامل ضغط رئيسي بجانب التظاهر .
▪️ رغم ما تمارسه قحت من ذر للرماد في العيون بقولها إن قبولها بمبادرة فولكر لا يعني التراجع عن شعاري لا تفاوض لا شراكة، فإن العيون كلها ترى بأنها الآن تفاوض المكون العسكري أساساً . وأن الغرض الأساسي من التفاوض هو عودة الشراكة بشروط جديدة تتركز على ضمانات من الخارج بعدم فضها مستقبلاً، وزيادة نفوذها وتقليل نفوذ المكون العسكري بقدر الإمكان إعتماداً على قوة نفوذ وتأثير السفارات .
▪️ تعلم قحت أن مطلبها الخاص بـ ( تأسيس سلطة مدنية كاملة تنأى بالمؤسسة العسكرية عن الحكم ) مستحيل التحقيق في الفترة الانتقالية، وأنها – لا غيرها – من عطلت تحقيقه برفضها لمقترح السنتين الذي قدمه المجلس العسكري في البداية كفترة كافية للانتقال . وموازين القوى لا تقول بأننا أمام عملية تسليم وتسلم ولا “خيمة صفوان” سودانية.
▪️ اقتراح قحت توسيع المشاركات الخارجية وضم الترويكا والإتحاد الأوروبي، جاء متسقاً مع سعيها الدائم لتنصيب أوصياء خارجيين ليدعموا وصاية البعثة الأممية على الفترة الانتقالية، ذلك لأنها تثق في انحيازهم لها مقابل تبعيتها الكاملة لهم . ولهذا فهي ترى أن الشراكة المثالية لحكم السودان أطرافها الأساسيين هم قحت والبعثة الأممية والترويكا والاتحاد الأوروبي .
▪️ في مقابل توسيع المشاركات الخارجية طالبت قحت بتقليل المشاركات الداخلية : ( ترى قحت أن من تصدى للانقلاب هو قوى الثورة التي يجب أن توضع غاياتها كمحدد لما ينتج عن هذه العملية، وألا يُتخَذ هذا التشاور كوسيلة لإغراق المشهد بواجهات تعبر عن الانقلابيين بصورة أو بأخرى )، وهذا يكشف أن قحت بعد قرارات التصحيح لم تزدد إلا إقصاءً للداخل وتبعيةً للخارج .
▪️تطالب قحت بـ ( التأسيس لوضع دستوري ذو مشروعية شعبية ) لكنها تسعى بكل السبل لعزل ممثلي قطاعات واسعة من الشعب .
▪️ قحت التي تطالب بـأن (تكون العملية السياسية محددة بسقف زمني قصير حتى لا تتخذ كوسيلة للتطويل والتمييع ) يشكل التطويل والتمييع أساس سياستها في الفترة الانتقالية، سواء لناحية المماطلة في تشكيل وتفعيل المؤسسات ( البرلمان المعين، الأجهزة القضائية، المفوضيات، لجنة استئنافات التمكين .. إلخ) أو لناحية تطويل الفترة الانتقالية نفسها، ولا يُستبعَد أن تستغل ما حدث من انقطاع لمسيرة حكمها للمطالبة بتمديد جديد للفترة الانتقالية لتبدأ السنوات الأربع بعد تشكيل الحكومة الجديدة ..
▪️ قول قحت ( موقفنا واضح وجلي، لن نسمح لأي عملية أن تقسم الشارع أو تحيد عن أهدافه، فالشارع هو الأساس وهو الذي بيده القرار أولاً وأخيراً ) يؤكد أنها تخشى غضب “لجان المقاومة” و”ملوك الاشتباك” و”غاضبون” التي تعتبرها قاعدتها الشعبية، وهي تعلم إنها بقبولها لمبدأ التفاوض ستغضبهم، وأن هذا سيتسبب في استمرار، بل ربما زيادة عمليات ضرب وطرد قادتها الذين يغامرون بالمشاركة في المواكب، وهي تعلم أن التفاوض إذا نجح سيفضي – بالبديهة – إلى تسوية لا تحقق المعادلة الصفرية التي تريدها هذه الأجسام المتطرفة الفوضوية.
▪️ تصوير قحت توليها للسلطة كمعادل موضوعي للتحول الديمقراطي لا ينطلي على الشعب السوداني الذي تسرق لسانه، وليس في فترة حكمها ما يؤكده، وهو لا يتماشى مع ما تسببت فيه من تأخير للحكم المدني الكامل المنتخب، ولا مع رعبها المعلوم من الانتخابات .
إبراهيم عثمان