هل ترضى بحب تحت هراوة البوليس؟ كان سؤال والد مصطفى مؤلمًا وصادمًا في حقيقة وصفه لتجارب مرّ بها كثيرون -أنا منهم- باختلاف بسيط في واقعة بحث مصطفى عن حبيبته بعد اختفائها دون سبب، ومحاولة والده تنبيهه أنه أمام حقيقة واحدة فقط كما وصفها في هذه القاعدة: عندما تحسن إلى خسيس وضيع فكأنك تطعنه في قلبه!
لكن والد مصطفى كان غير آباء كثر، صديق لولده يداعبه حين تبتسم له الحياة بعد لقائه حبيبته، وفي حزنه يواسيه ويدعمه، وذلك كان سببًا في تجاوزه حبيبته نوال حين قال له أبوه: هى طعنة يا ولدي تهد جبلاً ولكن من قال لك إنك لست أقوى من الجبل.
مصطفى بطل القصة كان طموحًا بما يكفي وآثرت فيه حبيبته ونزعت من روحه الكثير، حتى اختار وظيفة نظامية الفساد فيها هو الطريق السهل للثراء السريع، ثم السفر للحج والعمرة كل عام لغسل الذنوب والخطايا، حتى في اختياره لشريكة حياته فهو لم يحسن ذلك، وعاش في معاناة خلقها لنفسه كان عزاؤه فيها أطفاله الصغار.
ولذلك تحدث الكاتب بلسان البطل واصفًا حياته قائلًا: كانت المعادلة بسيطة جًدا ولكنها في غاية الحسم، كن فاسًدا تربح متع الدنيا، كن شريفًا وعش حياة تبدو كالحياة.
الحياة حتى في تجربة مصطفى لم تكن عادلة مع تجربته، وصفعته في أول الطريق دون رحمة حين أرسلت له نوال كلامًا لاذعًا، ولم تكتف بتركها له مقابل حياة مادية أخرى، ولذلك كان رفق والده به وصل لأنه قال: الحب يا أخي الحبيب هو في كينونته نوع من الرزق، وأنت لم ترزق حبها، ثم الحب من أوله لآخره ليس له معنى سوى العطاء، فماذا قدمت لك؟ أراهنك بما بقى من عمري أنك قدمت لها كل شيء من قلبك إلى هداياك، بينما هي لم تقدم شئ يصح الكلام عنه.
أحداث القصة بعد ذلك اتجهت لطريق آخر غير الذي ظن مصطفى أنه ملاقيه في حياته مع ولديه وبنته، لأنه أيضًا وجدهم يسعون لتدمير ما تبقى له من إرث الماضي، حياة لا معاني لها ولا غاية حقيقية، كل شئ من أجل المال، ولا يهمهم التاريخ في شئ، لذلك كانت بداية تمرده عليهم ورفضه ما اقترحوه، ودفاعه عن رمزية ومعاني كل ما ببيته وحديقته والشجرة التي سماها على اسم حبيبته الأولى، حين قال لهم دون تردد: أنا مؤمن بأن بداخلي طلقة وحيدة وأخيرة سأطلقها يوم على رأس كل هذا القبح الذي يحيط بي، لا أريد أن تكون رأس أحدكم مستقرًا لطلقتي.
كان الكاتب محقًا جدًا عندما عبّر عن كَم القبح الذي يعانيه مصطفى وأن حاله مثل كثيرين يعانون ولا يستطيعون صد هذه المعاناة؛ لكنه كان قاسيًا عليه بصراحة لا مفر منها عندما قال:
عندما يلدغ أحدهم من الجحر ذاته مئة مرة يكون مغفلًا لا يحق له الغضب من الآخرين، عليه أن يوجه سهام غضبه إلى قلبه هو.
الحبكة الدرامية التي كانت عليها أحداث القصة في جزئها الثالث نتيجة طبيعية كبديل لتمسك مصطفى بالبيت والحديقة، ولأنه رأى أنه سيخسر إرثه وذكرياته القديمة فقرر المواجهة ولم يكرر تجربته في الاستسلام للظروف وتحديد الاختيارات بعد تركه حبيبته.
ولذلك كان مصطفى صارمًا وحاسمًا حتى في شرحه فلسفة رفضه ما تريد زوجته وأولاده فعله حين قال: أنا أيتها السيدة الصغيرة من الشهداء، وأنت وشقيقاك وأمك من الناس، فلن نجتمع قط على كلمة.
الخير هنا لم ينتصر على الشر، بل كانت الطلقة الأخيرة لدى مصطفى بمثابة كشف لقبح سيظل يدفع ثمنه بعد ذلك، لأنه ببساطة شديدة واجه سلفًا من زميلته التي أتت له بفرصة يستطيع من خلالها توفير ما يكفي لتلبية طموحات ومطالب زوجته وأولاده دون التفكير في بيع البيت حقيقة الحياة التي يعيشها. ولذلك حين تحدث معها عن معاني الأشياء ورمزيتها وقيمتها قالت بذات البساطة: المعاني هى أوهام المثقفين أصحابك، البيزنس هو حقيقة العالم الوحيدة إضافة إلى الموت، غير ذلك أوهام.
ناقش الكاتب في قصته مسألة شائكة جدًا خاصة بالصعود الغريب والوهمي في الوظائف والمناصب والمراتب الاجتماعية مقابل أشياء أخرى غير الموهبة، وهي التي كانت عاملًا قويًا في دفع البطل لإطلاق طلقته الأخيرة دون تردد ودون تفكير في النتائج المترتبة على ذلك. طلقته الأخيرة كانت على شخصية لا تستطيع رسم مثلث أو دائرة -حسبما ذكر عنها- حصلت على جائزة أفضل عمل هندسي في مسابقة كبرى، لكنها كانت مستفزة لشخص مثل مصطفى يفهمها جيدًا ويعرفها حق المعرفة منذ أن كانت طالبة بالجامعة.
كنت اتمنى شرح كل ما ذكر بأجزاء القصة الأربعة أو تناول أحداثها الفارقة، لكنني ادعو القراء لقراءة القصة بأجزاءها الأربعة على مدونة الأستاذ الصحفي والكاتب الكبير حمدي عبدالرحيم في الروابط التالية:
https://hamdyabdelrahim.blogspot.com/2020/05/blog-post.html?spref=fb&m=1
https://hamdyabdelrahim.blogspot.com/2020/05/2.html?spref=fb&m=1
https://hamdyabdelrahim.blogspot.com/2020/05/3.html?spref=fb&m=1
https://hamdyabdelrahim.blogspot.com/2020/05/4.html?spref=fb&m=1
