ناقوس خطر، المخطط الغربي القديم المتجدد (تقسيم السودان)



جمعتني ذات رمضان جلسة مع الأنصاري الأصيل والسياسي الوطني العتيق المرحوم الأستاذ عثمان عبد القادر عبد اللطيف الذي تسنم مواقع قيادية بحزب الأمة القومي ثم مواقع قيادية بالمؤتمر الوطني وتولى مناصب دستورية ووزارية عديدة، فسألته عن سر تحوله من قيادة حزب الأمة القومي الذي كان فيه نائباً لرئيسه المرحوم السيد الصادق المهدي، بخبرته الكثيفة في العمل السياسي حدثني يومها عما يحاك للسودان من مؤامرات إقليمية ودولية يشارك فيها كثير من أبناء البلد من قادة الأحزاب بجهلٍ منهم أو بعلمٍ وتواطؤ، ومن ضمن ما ذكره في تلك الجلسة المخطط المرسوم لتقسيم السودان إلى خمس دويلات صغيرة ستؤسس على قواعد جهوية ومناطقية متعددة القبائل والأجناس لتظل متناحرة في داخلها ومتناحرة فيما بينها أيضاً، مما يجعل السودان في حالة عدم إستقرار دائمة تمنعه من إستخراج وإستغلال موارده الضخمة ليتم نهبها بواسطة القائمون على هذا المخطط أو لتظل كامنة مخزوناً لمستقبل أجيالهم التي يعلمون حجم القحط في الموارد الذي ينتظرهم، وذكر بأن الأمر سيبدأ بالجنوب ثم الغرب ثم سينتشر لأقاليم السودان الأخرى، عجبتُ حينها لهذا السيناريو وظننته ضرباً من توجسات (نظرية المؤامرة) التي يبرر بها الساسة عادةً مواقفهم أو يحشدون بها الدعم لحكوماتهم وأحزابهم، إلى أن جاءت إتفاقية سلام جوبا الأولى التي قادت لفصل جنوب السودان عن الوطن، وخرجت من صلب الحركة الجنوبية المنفصلة حركات التمرد على الدولة في غرب السودان وجبال النوبة والنيل الأزرق، فأستبان لي ما كان حينها عني خافياً و عاد لذاكرتي ما حدثني عنه الراحل العم عثمان عبد القادر عبد اللطيف.
والناظر لواقع حالنا اليوم لن يعجزه إدراك أن هذا المخطط يمضي على قدم وساق بل وبخطى متسارعة خاصة بعد سقوط حكومة النظام السالف، وأول شواهد تقدم هذا المخطط وأخطرها التفكيك المتعمد الذي تم ويتم لروابط (الدولة الواحدة) بتغييب الإحساس ب( وجود الدولة) و محاولات كسر هيبتها وإضعاف حاكميتها وقدرتها على السيطرة على الأمور بالبلاد مما يؤدي تلقائياً للجوء الناس إلى الولاءات الأضيق من ولاء (الدولة) فتتصاعد النزعات القبلية والجهوية والمناطقية التي تتخذ من تكتلاتها تلك حواضن حماية و قوة في مقابل حاضن الدولة وحمايتها، وها هي (الجهات الأربعة) بالسودان تظهر فيها كيانات القبليات والجهويات بكثافة، بدأت بجنوبنا الحبيب في جنوب كردفان بحركة مسلحة تطالب بالعلمانية فوق الدستورية أو (الحكم الذاتي)، ثم تسللت للغرب بعدد كبير من الحركات في غالبها ذات طابع قبلي أو مناطقي بدأت مطالبيه ثم إرتفعت الأصوات التي تطالب ب (تقرير المصير ) وبدأت تبتز بذلك الحكومة المركزية، ثم لحق الشرق بالركب بما يسمى بمسار الشرق ثم إتحاد قبائل وعموديات البجا اللذان يتنازعان تمثيل الشرق الحبيب لكنهما كلاهما لوحا بمطلب (الحكم الذاتي)، وها هي حمى الجهويات والمناطقية تنتقل لشمال السودان الذي لم يشهد في تاريخه الطويل تمرداً على سلطان الدولة الواحدة أبداً، فها هي جموع كيان الشمال ونهر النيل تجاهر اليوم بمطالبها وتغلق الطريق وترفض أي خيارات سوى (الحكم الذاتي)، و(أرض المحنة) جزيرتنا الخضراء إجتمع مزارعوها بالأمس القريب وأعلنوا مشروع الجزيرة مشروعاً ولائياً لا قومياً، وقال متحدثهم بالحرف الواحد ( كل الأقاليم أخدت حقها، نحن منتظرين شنو؟)!!
والناظر لحالة الإحتقان السياسي والأفق المسدود الذي وصلت إليه ثورة الشعب المجيدة وحالة الغليان التي لم تهدأ منذ إندلاع الثورة في ديسمبر 2019م سيرى بأن مكونات ساحتنا السياسية تسهم بقدر كبير في خلق الأجواء المثالية لتنفيذ مثل هذا المخطط، وذلك بحالة الشقاق والتشظي المتصاعدة وعدم القدرة على إحداث توافق وطني يجتمعون فيه على ثوابت وطنية وعلى آلية مرتضاة من الجميع لتداول السلطة، فمن ذا الذي يعمى أن يرى خطورة هذا المخطط المدمر الواضح المعالم كالشمس في رابعة النهار ؟ وما بال قومي يقبلون ليكونوا أدوات طائعة ومطيعة في تنفيذ هذا المخطط، بل يتسابقون ليصبحوا معولاً في أيادي القوى الإقليمية والدولية الساعية بلا كلل لإضعاف السودان وتركيعه وتسخيره لمصالحها قبل تفتيته وتفكيكه؟
إن قطع الطريق أمام هذا المخطط القديم المتجدد هو واجب اللحظة الوطني الأول والذي يتطلب من كل حادب على سلامة ووحدة هذه البلاد أن يعمل لجمع الصف تحت مظلة (دولة السودان الواحد) وبسيطرة كاملة ل(حكومة مركزية) قوية على كامل أرض وأقاليم السودان، دولة (مواطنة متساوية) تنال فيها كل الأقاليم حقوقها وحظوظها في ( الثروة والسلطة) بكل عدالة وشفافية، دولة يتم فيها التداول السلمي السلطة عبر (انتخابات نزيهة)، ويسود فيها (حكم القانون) على الجميع، وأن يحدث ذلك عاجلاً غير آجل، هذا أو فليبشر أعداء السودان بنيل مرادهم ونجاحهم في مخططهم، وليبشر أهل السودان بتطاول سنوات الضنك والمعاناة وبجحيم الحروب الأهلية داخل حدود دويلاتهم الصغيرة وبين دويلاتهم و دويلات كانت بالأمس جزءً من وطنهم الكبير الذي (كان إسمه السودان)، ومن يستبعد ذلك فليتذكر: من منا توقع يوماً أن نفقد نصفنا الجنوبي الحبيب؟
ألا هل بلغت؟ اللهم فأشهد.

حلمي الدرديري فارس