أُثِر عن لورد آكتون مقالته “السلطة مفسدة، والسلطة المطلقة مفسدة مطلقة” Power corrupts , and absolute power corrupts absolutely. وأثبت التاريخ والحاضر أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة. ولكن لورد أكتون جانب الصواب حين قال إن “السلطة مفسدة”، فما كل سلطة في جوهرها مفسد. وقد عاصرنا حكاماً لم تفسدهم السلطة ابتداء بالأزهري ومروراً على النميري وسوار الذهب والبشير. نعم البشير رغم أنف المرجفين الذين يرهبون الناس بالتُرّهات، فإن لم يرددوا أكاذيبهم اتهموهم، وإن جَبُنوا وسكتوا تركوهم.
على أن الاستثناء في مقالة لورد أكتون (السلطة مفسدة) هم من حكموا بعد (الثورة)، فقد انقضّ هؤلاء على السلطة، ثم انقضوا على المال العام والخاص انقضاض السِّباع الجائعة. وانقضوا على السلطة فأظهروا فساداً سياسياً وجبروتاً ما سبقهم به أحد من العالمين.
وما أحقر الحاكم حين يكذب ويتحرّى الكذب، ثم يَدّعي – زوراً – طُهراً ونقاءً ونزاهةً. لكن المُستفز فعلاً أنهم يستخفون بعقولنا، حين كانوا يتحدثون عن “إنجازات” ويظنون أن فسادهم خفيَ على الناس. عايش الناس فسادهم ورأوه رأي العين، واستخدموا تلسكوب هابل ليروا لهم إنجازاً فلم يجدوا غير الجوع والمرض وانحطاط الخدمات. والأنْكَى رأينا العمالة للأجنبي وال political prostitution في أحط درجاته.
والأخطر من هذا كله هو ما اجتهدوا فيه لتصفية الدولة ومصادرتها وإفراغها من محتواها وإنهاء وإبطال وجودها، أو ما يعرف ب Nullification of state. وحتى لا نُتّهم بإلقاء القول على عواهنه أذكر بتصريح حمدوك في السعودية بعد شهور من تكوينه لحكومته وشكواه من أن قوى الحرية والتغيير (قحت) لم تمده بخطة وبرنامج اقتصادي. وظلت خلال كل هذه السنوات لا تستطيع أن تختطّ خطة ولا برنامجاً، لأنها بالفعل بلا رؤية وبلا تجربة، وألغت دور مؤسسات الدولة المناط بها التخطيط.
ثم عَمَدت إلى الأمم المتحدة فاستجلبت منها بعثة، ونصَّ طلب استجلابها على تكليفها بالإصلاح الإداري والقانوني ووضع الدستور والعناية بالاقتصاد والأمن. أليس هذا إفراغاً للدولة وإبطالاً لدورها (Nullification)؟؟!! ولا زالت تلك البعثة تتدخل بقيادة ڤولكر في خصيصة أمرنا!!!
ومن بعد شكلوا لجنة سياسية (لجنة التمكين) التي أبطلت دور الدولة في الشرطة والقضاء والنيابة، وتملّكت حق فصل القضاة ووكلاء النيابة وضباط الشرطة ومن شاءت من آلاف الموظفين وسيطرت على المصارف وأموال الناس وأصولهم، فتبخّرت الدولة تماماً. والخِشْيَة كل الخِشْيَة أن تنتهي كل جرائم هؤلاء المجرمين بتسوية سياسية !!! قل لي بربك هل يجوز التسامح مع معتادي الإجرام Habitual Criminals ؟؟ وهل هؤلاء إلّا معتادي إجرام ؟؟ .
لا تستغني دولة عن التفاعل مع دول العالم. ولكن أن يفتخر النافذون فيها بالتردد على السفارات “سفارةً سفارة”، وأن تكون السفارات الغربية وسفارات الإمارات والسعودية هي مَحَجّتهم فذلك إبطال للدولة ورهن لإرادتها وإلغاء لها.
أما ثالثة الأثافي فهو ما كانت تقوم به كتائب حنين. وقد رأينا كوادرهم المسلحة ترفع مراسل الجزيرة على البوكس كما تُرفع الخراف، وما كان يجري في منتجع الأسكلا من تخزين سلاح وتعذيب واعتقال، والأمثلة لا تُحْصَى. وثالثة الأثافي أيضاً ما كانت تقوم به كوادر الحزب الشيوعي من قتل للشباب ثم ترمي بتلك البائقة القوات النظامية. وثابتٌ وجود جناح مسلح للحزب الشيوعي. أما سلاح الحركات المسلحة فحدّث ولا حرج. وفي كل حين نسمع عن إلقاء القبض على خلايا مسلحة. ومن المؤكّد أن ما يُكتشف هو فقط قمة جبل الجليد، ففي الأعماق ما يخيف. والمقبوض عليهم ليسوا هم أُس المشكلة، فمَن وراءهم من قيادات عليا هم المُعْضِلة الماحِقة.
على أن مَبْعَث الحيرة وما يثير الشبهات أن السلطات الأمنية تعلم أن أحزاب البعث والشيوعي أحزاب مسلحة ثم لا تُبدي حراكاً. بل إن المثير للعجب أن قيادة الدولة تغض الطرف عن القيادات العليا لهذه الأحزاب وهذه الحركات وهي صاحبة الأمر والنهي في السلاح.
ممارسة السياسة والتَسَلُّح لا تجتمعان. هذا ترتيب عالمي مُجمعٌ عليه. وكمثال نذكّر أن اتفاقية الجمعة العظيمة بين بريطانيا والشين فين (Sinn Féin) لم تتسنَ إلا بعد أن أُلغي حزب الشين فين (الجيش الجمهوري الأيرلندي).
ومعلوم أن قانون الأحزاب في السودان يحل كل حزب لديه جناح مُسَلّح. فهل ستظل الحركات المسلحة وسيظل السنهوري وصديق يوسف يستمتعون بالسياسة مع توجيه فُوّهات بنادقهم لنا، في تناقض بشع مع المنطق الذي يقول You can not have your cake and eat it “إنك لا تستطيع أن تأكل ما عندك من كيك وتحتفظ به في نفس الوقت”.
إن بقاء حركات وأحزاب على تلك الشاكلة لمِمّا يُثير الشُبُهات ويبعث على القلق والخوف!!!
بديهي أن الدولة هي الأبقى وهي الأهم. والحكام الجديرون بالتوقير هم من يحافظون عليها بكامل أدورها وسلطتها، ويضربون على أيدي من يعبث بها أو ينتقصها.
♦️دكتور ياسر أبّشر