التدخلات الخارجية وتأثيراتها على الأزمة السودانية

لم تعد المتغيرات الداخلية في كثير من الدول بعيدة بأي حال من الأحوال عن مصالح الدول الكبرى وأطماعها الاقتصادية والسياسية والأمنية، بل أصبحت هي المحرك الفاعل لكل أشكال الاتجاهات والصراعات السياسية والأمنية للمكونات الهشة في دول العالم الثالث

فأصبح لكل صراع داخلي في بلد ما صدى دولي لا ينفكّ يؤسّس رؤيةً ويفرض حلّاً، وإن كان يتم عبر الدبلوماسية أو منظمات المجتمع المدنى فإنه يفرض شيئاً من الوصاية، من خلال حلول تتضمن الترغيب والترهيب عبر الوساطات المغلَّفة بالمصالح، وهذا ما نحاول أن نفهمه في تعقيدات التدخلات الدولية في الأزمة السياسية السودانية والصراع المسلح في ما يُطرح الآن من وساطات إقليمية ودولية.

ظلّ السودان لفترة ليست بالقصيرة تحت الضغط الدولي سياسياً واقتصادياً وأمنياً منذ أيام الرئيس عمر البشير الذى أُطيحَ به في 11 أبريل/نيسان 2019 بثورة شعبية لعبت المحاور الإقليمية والمخابرات الدولية الدور الأكبر فيها. وجاء التحالف الهشّ بين المدنيين والعسكريين نتاجاً لوساطات دولية وإقليمية وصنيعة المخابرات العالمية ليحكم الفترة الانتقالية استناداً إلى وثيقة دستورية تم التوافق عليها بين المكونين.

لم تشهد الساحة السياسية السودانية استقطاباً دوليّاً وصراعاً للمحاور مثلما شهدت حكومتا عبد الله حمدوك الانتقالية الأولى والثانية. فعبد الله حمدوك الموظف الأممي، الذي اختيرَ رئيساً لوزراء الفترة الانتقالية في أغسطس/أب 2019 بدأ فترة حكمه بأن بعث برسالة إلى الأمين العامّ للأمم المتحدة، طلب فيها من مجلس الأمن الدولي إنشاء بعثة سياسية خاصة من الأمم المتحدة تحت الفصل السادس لدعم السلام في السودان. هذه الخطوة اعتُبرت بمثابة قلب الطاولة على المكون العسكري -الشريك في الحكم- وفق الوثيقة الدستورية الانتقالية.

هذا الصراع هو الذي عجّل بفشل حكومة الفترة الانتقالية التي انشغلت بإرضاء المحاور الدولية على حساب الاهتمام بمتطلبات تحسين حياة المواطن السوداني في المعيشة والاقتصاد والأمن والسياسة، وتبنّي الأجندة الغربية الخاصة بالمرأة وحقوق المثليين وغيرها. كما أن إثارة مثل هذه الموضوعات أدّت إلى استنفاد الطاقات والانقسام وشد الاستقطاب في الساحة السودانية، بدلاً من الاصطفاف خلف مشروع وطني للتنمية والاستقرار والسلام يقوده د.عبد الله حمدوك.

بوادر الاستقطاب والاستعانة بالأجنبي بدأت منذ المفاوضات بين العسكريين والمدنيين، التي كانت ترمي إلى اقتسام السلطة عقب سقوط الرئيس البشير. فالمدنيون تمترسوا خلف قوة وزخم الجماهير في الشارع والدعم الخارجي، مما أدى إلى الخروج بالوثيقة الدستورية الانتقالية، التي تجاوزت في بنودها مهامّ الحكومات الانتقالية وأعطت الحكومة صلاحيات تقع ضمن مهامّ الحكومات المنتخَبة، كما أنها تضمنت تشكيل مجلس للتشريع يكون بمثابة الرقيب والجهاز التشريعي، مما جعل الأحزاب المكونة للحكومة الانتقالية “قوى الحرية والتغيير” تعمل على فرض الأجندة الغربية. والدخول في صراعات في ما بينها من أجل فرض رؤاها الآيديولوجية.

فهنالك أكثر من مبادرة تدفعها أكثر من رؤية ومصلحة للتدخل في الشأن السوداني، فالولايات المتحدة تصارع روسيا في السودان، وتقوم بدعم المكون المدني، ليس من موقف أخلاقى ولا مبدئى، فكثيراً ما دعمت أمريكا انقلابات عسكرية كانت ترى فيها مصالحها،

أما المبادرات والوساطات العربية والمتمثلة في محور السعودية والإمارات ومصر، فهذا المحور يميل إلي بقاء العسكر في رأس السلطة، بمشروع يوقف مدّ الثورات الشعبية والتحول الديمقراطى وإنهاء تمدُّد تيار الإسلام السياسي في السودان وانضمام البلاد إلى نادي التطبيع الإسرائيلي.

وهنالك وساطات أقل تأثيراً في المشهد السياسي السوداني ولكنها تخشى الانهيار الأمني في السودان الذي سوف تؤثر تداعياته في المنطقة كلها، مثل وساطة الاتحاد الإفريقي، ووساطة دولة جنوب السودان التي عاد وفدها إلى جوبا دون أن يعلن تقدماً مُحرَزاً في حدوث اختراق للمواقف المتباعدة.

تحتشد المبادرات وتتعدد الوساطات ويكثر عدد المبعوثين في المنطقة التي سُمّيت بـ”حزام الأزمات”، أزمات صنعتها المصالح الدولية والتقاطعات من أجل الهيمنة والسيطرة على الإقليم، فلم تكُن هنالك إرادة سياسية جادّة للمساعدة على الخروج من أنفاق التوترات الأمنية والخلافات السياسية التى تعيشها المنطقة وتغذيها الدوائر والمصالح للدول الكبرى، لتبقى الأمور تحت السيطرة الهشة حتى الآن. ولكن إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة فإن العواقب لن تقف عند حدود الإقليم.