الحلول الغربية المسمومة وأشكال العنف

خلقت ممارسات القوات النظامية الخاطئة والقمعية والاستخدام المفرط للعنف لقمع الاحتجاجات السلمية، استياءً كبيراً، وشجّعت على استمرار الحالة الثورية، ويرافق هذه الممارسات عدم الكفاءة السياسية وسوء الحكم وقلة الخبرة السياسية عند المكون المدني. إضافة إلى ضعف عمليات الاندماج السياسية، فالقوى السياسية متنافرة، ولم يشجّعها تنوعها المطلوب في أن تكون حكومة واحدة، إنما كانت تمارس دورَي الحكومة والمعارضة معاً من داخل مجلس السيادة.

وبينما لعبت الأيديولوجيا دوراً مهماً في انتشار العنف السياسي في عهد النظام السابق، نجد أن الحكومة الانتقالية منقسمة بين قوى ليبرالية، وأخرى تحشد الناس لأسباب معينة بهدف خوض النضال ضد الدولة، ويرافق ذلك تمجيد التضحيات بالاحتفاء بممارسة القوة والعنف ضدهم لمزيدٍ من النضال، وفي جانب منها تدعو إلى انتهاج شكل متطرف للمواجهة باستهداف بعض أفراد القوات النظامية بمبرّر أنهم يلجؤون إلى العنف لمواجهة عنف الدولة.

وهناك سبب آخر ظهر في التحام التظاهرات في العاصمة الخرطوم بأخرى في أقاليم مختلفة، منها دارفور ومنطقة جبال النوبة وشرق السودان. حاول المكون المدني تصوير هذا الحراك على أنه متصلق بما يحصل في الخرطوم، لكن لدى هذه المناطق أسباب أخرى للاحتجاج يمكن إدراجها في ما يُطلق عليه “العنف الانفصالي”، لكنها وجدت تربة خصبة في انعدام الأمن ونشاط الحركات المسلحة، خصوصاً التي لم توافق على توقيع اتفاق السلام الشامل مع الحكومة الانتقالية. السبب الآخر هو استخدام سلاح الولاء السياسي بسبب الاستقطاب الحاد وظهور عمليات فرز الآراء السياسية المستقلة، وفق ديباجة سياسية ثابتة هي “من هو ليس معي فهو ضدي”.


أشكال عنف أخرى

يمكن أن تشهد الحقبة المقبلة في ظل عدم وجود وسائل دستورية للتعبير والحفاظ على الحقوق والاحتكام إلى التشريعات والقوانين، ظهور أشكال أخرى من العنف تتمثل في الصراعات السياسية بين مجموعات النخب المختلفة. وكذلك تواصل الاحتجاجات وتحوّلها من سلمية إلى عنيفة لمقابلة عنف السلطة وفي هذه الحالة لن يكون هناك ناجٍ.

وقد بدأت الاحتجاجات بالفعل تتخذ أشكالاً مقاومة مختلفة بالتسبب في أضرار واسعة للبنى التحتية ومرافق الدولة والاعتداء على الأفراد وعمليات النهب وإرهاب المواطنين. كما يمكن أن تتولد حركات إرهابية متنوعة، منها ما هو قائم على أساس أيديولوجي إذا كان دينياً رافضاً للوضع الحالي وبعض المظاهر التي كانت مقيّدة في ظل النظام السابق، باعتقاد هؤلاء أن هناك تغييراً اجتماعياً دينياً تتم ممارسته على المجتمع السوداني.

وهذا الخطاب بدأ منذ بدايات الثورة ومتواصل الآن وربما يتم التخطيط إلى تقويته بتآلف جماعات إسلامية متطرفة تتوحد لتحقيق هذا الهدف. كما أن هناك حراكاً أيديولوجياً آخر يقوم على التوجه الشيوعي الذي يرى أن مسار الحكومة الليبرالي سيقود السودان إلى الرضوخ لمطالب الرأسمالية الدولية والتدخل الغربي في شؤون البلاد والخضوع للمؤسسات المالية الدولية، مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. وينشط هذا الاتجاه بين المتظاهرين بلافتات تحمل شعارات بهذا المعنى، هناك مجال لها أيضاً لتتحوّل من حركات ناشطة إلى عنيفة.

وبما أن العسكر يسيطرون على القوة والسلطة الآن، ويمارسون العنف ضد المدنيين، فلو دارت الأمور وخضعت المؤسسة العسكرية لضغوط خارجية ربما نشهد حالة من الثورة العسكرية. هذا الاحتمال يخدمه وجود مشكلات داخل المؤسسة العسكرية نفسها تتعلق بالصلاحيات والامتيازات، فضلاً عن وجود الحركات المسلحة المتمردة المراد إدماجها في المؤسسة، التي ظلت تطالب قبل قرار الدمج المنصوص عليه في اتفاقية جوبا للسلام بصلاحيات واسعة، مما يمكن أن يخرج هذا النزاع الداخلي إلى ثورة ضد الكل. كما يهدد الوضع الحالي واستمرار استخدام العنف بتواصل الحرب في دارفور ومنطقة جبال النوبة.

حلول وسطى

في ظل الوضع القائم، المناداة بتحكيم صوت العقل وإيجاد حلول جذرية تبدو في حد ذاتها ضرباً من اللاواقعية، لكن هناك دائماً منطقة وسطى لإنشاء وضمان شكل من أشكال الحلول السلمية، التي لن تحل أزمات السودان بشكل جذري، وهي التي أدت إلى الوضع الحالي، لكنها ستُسهم في تهدئة الأوضاع وضمان عدم تصعيدها، وإزالة حالة السخط والاحتقان والإحباط العام، وتخفيف حدة الاضطرابات الإثنية في مناطق أخرى، التي يمكن أن تزعزع الاستقرار في البلد كله وقد تفتح الباب للتدخلات الدولية مرة أخرى. كما يمكن أن تقوم المشاركة السياسية في هذه المرحلة الحرجة على أساس إشراك الشباب كجزء من الحكومة المقبلة، ما يضمن تعددية سياسية واجتماعية، إضافة إلى ضرورة العمل على الفصل بين السلطات الثلاث (التنفيذية والتشريعية والقضائية) لضمان المساءلة والشفافية وخروج نتائج التحقيقات في أحداث القتل خلال سنوات الثورة، ومن أبرزها التحقيقات في أحداث اعتصام القيادة العامة للقوات المسلحة.

هذه الحلول تستلزم اقتناع الحكومة بأن عليها واجبات مطلوب منها القيام بها، وليس إرجاءها إلى ما بعد الفترة الانتقالية، فما اتضح من الممارسة السياسية للحكومة الانتقالية بشقّيها المدني والعسكري هو اعتبارهما للفترة الانتقالية كجسرٍ زمني معطل، يريد الطرفان العبور من خلاله من دون أن يكون على عاتقيهما أي التزامات تجاه المواطنين