باريس تطبق أساليب غير أخلاقية محدّثة باستراتيجيات الجيل الجديد من الاستعمار للحفاظ على نفوذها ونهب الموارد الإفريقية
تحاول باريس الاستفادة من وجود حركات إرهابية عديدة للحفاظ على شرعية للوجود الفرنسي وخاصة العسكري في المنطقة
الوجود العسكري الفرنسي في دول الساحل قوض إلى حد كبير الأمن والاستقرار والسيادة في غرب أفريقيا
ما تزال فرنسا تستخدم قدرًا كبيرًا من القوة على المستعمرات التي كانت تحتلها، حتى وإن نالت استقلالها نظريًا.
وتأسست الأنشطة الاستعمارية الجديدة لفرنسا في نطاق منطقة بلدان “الجماعة المالية الإفريقية” “CFA”، على نموذج سائد منذ 60 عامًا تقريبًا يخدم مصالح باريس الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
والسبب الأساسي لهذا الوضع هو اعتماد فرنسا المفرط على المصادر الإفريقية الفرنكوفونية (الدول الناطقة بالفرنسية) لتوريد المواد الخام الرخيصة.
ولعل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عاشتها الدول الإفريقية، التي نالت استقلالها من الاستعمار، وفرت فرصة وبيئة مواتية لتطور مفهوم الاستعمار الجديد.
وكان لدى القوى الاستعمارية، وخاصة فرنسا والمملكة المتحدة، موارد قيمة عديدة في القارة السمراء، بينها الشركات المتعاقدة العاملة في قطاعات احتياطيات الهيدروكربون، والاتصالات، وإدارة الموانئ والسكك الحديدية وأنظمة تجارة التجزئة، وإنشاء البنية التحتية.
وبالتالي، فإن القوى الاستعمارية، التي منحت هذه الدول الاستقلال، ملأت بكل أريحية فراغ القوى الذي أحدثته الأزمات الإدارية التي شهدتها تلك الدول.
ولفهم أبعاد هذا الوضع يمكننا النظر إلى تصريح أدلى به قبل أيام دودو تيام، أحد وزراء الخارجية السابقين في السنغال، حيث قال: “كفى! فهذا استقلال لا يتجاوز كونه مجرد استقلالًا شكليًا.. إذ لا يمكننا تحقيق الاستقلال الحقيقي ما دمنا لا نتجه نحو كسب حقوقنا السيادية في المجالين الاقتصادي والاجتماعي”.
يمكن القول إن خوف فرنسا من فقد مساحة في منطقة غرب أفريقيا، التي يدور حولها هذا المقال، مع وجود ملامح تغيير في المنطقة، قد دفع باريس إلى تطبيق أساليب غير أخلاقية محدّثة باستراتيجيات الجيل الجديد من الاستعمار.
ويمكننا القول إن هذا تحقق على شقين، الأول متعلق بـ”الفرنك الإفريقي” (CFA)، وهو اسم العملة الموحَّدة لـــــ14 دولة إفريقية عضوة في منطقة الفرنك الإفريقي.
وهي 12 دولة كانت مستعمرات فرنسية، بجانب غينيا بيساو (مستعمرة برتغالية سابقة) وغينيا الإستوائية (مستعمرة إسبانية سابقة).
وتضم منطقة الفرنك الإفريقي مجموعتين نقديتين، هما:
- الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا (UEMOA)، ويضم 8 دول، هي: بنين، بوركينا فاسو، كوت ديفوار، غينيا بيساو، مالي، النيجر، السنغال وتوغو.
وأنشئ الاتحاد في داكار (السنغال)، في 10 يناير/كانون الثاني 1994، ومقره واغادوغو (بوركينا فاسو)، وخلف الاتحاد النقدي لغرب أفريقيا (UMOA)، الذي تأسس في 1963.
- المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا (CEMAC)، وتضم 6 دول، هي: الكاميرون، جمهورية أفريقيا الوسطى، الكونغو، الغابون، غينيا الاستوائية وتشاد.
تأسست المجموعة في 16 مارس/آذار 1994، بمدينة انجمينا في تشاد، ودخلت حيز التنفيذ في يونيو/حزيران 1999.
يقع مقر المجموعة في بانغي (جمهورية أفريقيا الوسطى)، وأُنشئت لتحل محل الاتحاد الجمركي والاقتصادي لوسط أفريقيا.
خلال السنوات الأخيرة، كانت احتياطات الفرنك الإفريقي واحتياطات دول غرب أفريقيا توضع (كلها في السنوات الأولى لتأسيس تلك العملة ونصفها حاليًا) في البنك المركزي الفرنسي.
وحينما كان عشرات القادة والزعماء بتلك الدول يعلنون رفضهم لهذا الوضع، ورغبتهم بالخروج من الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب إفريقيا(UEMOA)، كانوا سرعان ما يواجهون انقلابات مدعومة من باريس، كترهيب لإثنائهم عن هذه التوجهات.
وقال رئيس ساحل العاج، الحسن وتارا، خلال مؤتمر صحفي مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون، نهاية العام الماضي، إن “الاتحاد الاقتصادي والنقدي لغرب أفريقيا” اتّفق مع فرنسا على إعادة تسمية “الفرنك الإفريقي” ليصبح “ايكو” (Eco).
كما اتفقا على إنهاء بعض الروابط المالية مع باريس، الداعمة للفرنك الإفريقي، التي ظلت مستخدمة خلال 74 عامًا منذ إنشائها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية (1939: 1945). على أن يبدأ تنفيذ الاتفاق بداية 2020، وبالمقابل تجري باريس استعدادتها المناهضة للعملة الجديدة.
وخلال اجتماع لأعضاء المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا(EKOWAS) ، في 17 يناير/كانون الثاني الجاري، رفضت كل من نيجيريا، سيراليون، ليبيريا، غامبيا، غانا ووغينيا، استخدام عملة “إيكو”.
وجاء إعداد عملة “إيكو” نتيجة أعمال قامت بها هذه المجموعة على مدار سنوات، أي أنه كانت هناك حالة من الجدل في الدول الإفريقية تسلط الضوء على اعتزام فرنسا تطبيق جيل جديد من الاستعمار.
أما الشق الثاني من الموضوع، فهو أن الحركات الإرهابية، التي زادت مؤخرًا في غرب أفريقيا، من شأنها إيجاد أساس شرعي لإبقاء فرنسا على قوات لها في المناطق التي تشهد عمليات إرهابية.
وهذا أمر يشهد معارضة كبيرة، سواء من الأفارقة داخل القارة أو الجاليات الإفريقية بأوروبا وغيرها من بلدان العالم، إذ ينظمون احتجاجات وفعاليات رافضة للوجود العسكري الفرنسي.
يعتقد هؤلاء أن القوة العسكرية الفرنسية، البالغ عددها 4500 عسكريًا والمنتشرة بمنطقة الساحل الإفريقي منذ 2014 ضمن عملية “برخان”، ساهمت بتأجيج الإرهاب، وتقويض الاستقرار الإقليمي.
وتحارب هذه القوة، في شريط الساحل والصحراء الكبرى، مجموعات مسلحة منتمية لتنظمي “داعش” و”القاعدة”.
لكن بعد ست سنوات، ومقتل 41 فرنسيًا، لا يزال الوضع الأمني هشًا بمنطقة الساحل.
وأعلن ماكرون، في 4 ديسمبر/كانون أول الماضي، أنه دعا قادة دول الساحل إلى قمة بفرنسا، في 16 من الشهر ذاته؛ لبحث العملية العسكرية الفرنسية.
وأضاف أنه يريد “توضيحًا من قادة دول الساحل (موريتانيا، مالي، النيجر، تشاد، بوركينا فاسو) بشأن مطالبهم من فرنسا والمجتمع الدولي.
وتساءل: “هل يريدون وجودنا، وهل يحتاجون إليه.. أريد إجابات واضحة.. السلطات الحاكمة في البلدان التي توجد بها قوات فرنسية، مدينة لي”.
منتقدًا أسلوب ونبرة حديث ماكرون، قال رئيس بوركينافاسو، روش مارك كابوري: “علينا مراعاة الاحترام المتبادل.. لدينا تعاون مع دول عديدة، بينها فرنسا، في الحرب ضد الإرهاب، وهي معركة دولية”.
كما أعرب رؤساء السنغال، مالي، النيجر، ساحل العاج، عن رفضهم الشديد لتصريحات وأسلوب ماكرون.
وقبيل زيارة ماكرون للنيجر وساحل العاج، بين 20 و22 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، شهدت دول إفريقية احتجاجات رافضة لوجود القواعد العسكرية الفرنسية.
** قمة “باو” والقلق الفرنسي
هذه القمة كانت مقررة في 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي، لكن تأجلت بعد مقتل 71 جنديًا في النيجر.
استضافت مدينة “باو” جنوبي فرنسا، في 14 يناير/كانون الثاني الجاري الجاري، قمة قادة دول الساحل الإفريقي، بدعوة من ماكرون.
وبحثت القمة الوضع بمنطقة الساحل، بعد تزايد الهجمات الإرهابية، خاصة بمالي والنيجر.
كما هدفت إلى توضيح موقف دول الساحل من الوجود الفرنسي بالمنطقة، وبحث احتياجات القوة الإفريقية التي تشارك بها الدول الخمس لمحاربة الإرهاب.
وبجانب قادة تلك الدول، شارك في القمة أيضًا الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي، موسى فكي، ورئيس المجلس الأوروبي، شارل ميشال.
ودأب ماكرون، في الفترة الأخيرة، على انتظار تصريحات من قادة هذه الدول الإفريقية لدعمه ضد ردود الأفعال الشعبية الرافضة للوجود العسكري الفرنسي في تلك الدول.
كما يرغب ماكرون بأن يلعب الشركاء الأوروبيون، إن اقتضى الأمر، دورًا نشطًا في منطقة الساحل.
لكنهم كانوا مترددين وهم ينفذون مراحل نشر وحدة القوات الأوروبية الخاصة Takuba)، السيف) بمنطقة الساحل، فلم تطلب دول هذه المنطقة نشر مثل تلك القوات.
إن كان ماكرون يثق بهذا الهيكل الأمني الجديد (القوات الأوروبية)، فإن الولايات المتحدة الأمريكية قللت من وجودها العسكري في غرب أفريقيا بشكل ملحوظ، تماشيًا مع متغيرات السياسة الدولية، وخففت من دعمها لفرنسا في هذا الاتجاه.
يمكننا القول إن هذا الوضع بات يقلق باريس بشكل متزايد، ويزيد من جرعة السياسة غير الأخلاقية، التي بدأت تتبناها؛ خشية أن تفقد مزيدًا من النفوذ خلال الفترة المقبلة.
** الوجود العسكري الفرنسي
لدى فرنسا 4 قواعد عسكرية دائمة بأنحاء أفريقيا، وبمرور الوقت تصبح القواعد المؤقتة دائمة، كما الحال في عملية “برخان” بالساحل.
دأب ماكرون على القول إن الجنود المشاركين في هذه العملية موجودون من أجل أمن أفريقيا.
لكن هذا الحديث لا يمنع إدراك حقيقة مفادها أن فرنسا تمارس ضغوطًا على هذه الدول، عبر سياسة العصا والجزرة، للحفاظ على مكاسبها الاقتصادية في ملكية الموارد القيمة بالمنطقة، ولذلك تحاول الاستفادة من وجود حركات إرهابية عديدة، للحفاظ على شرعية لوجودها بأفريقيا.
قوض الوجود العسكري الفرنسي إلى حد كبير الأمن والاستقرار والسيادة في دول غرب أفريقيا، وفي ظل هذا الوضع، ستواصل الدول المستعمرة، مثل فرنسا، نهب الموارد الإفريقية.
ولعل الاحتجاجات الكبيرة التي نظمتها الجاليات الإفريقية في الخارج، خلال الأشهر الأخيرة، تمثل حجر عثرة أمام هذه المطامع غير المحدودة، وتسلط الضوء عليها باستمرار.
ختامًا، وكما قال دودو تيام، فقد حان الوقت للدول الإفريقية لتعزيز مكاسبها في المجالات الاقتصادية والاجتماعية ووقف هذا النهب. والأجيال الشابة الديناميكية في القارة الإفريقية لديها من الإمكانيات ما يؤهلها لتحقيق ذلك.
- الكاتب كاان دوه جي أوغلو، خبير في الاقتصاد السياسي، والشؤون الإفريقية، لا سيما السودان، وهو يواصل أبحاثه في جمعية الدراسات الإفريقية “AFAM