سواء سافر رئيس مجلس السيادة “البرهان” إلى نيويورك أو لم يسافر، تبقى الحقيقة التي يتجاهلها ويتغافل عنها الكثيرون، هي أن “ماما أمريكا” لن ترضى إلا عن الخط أو التيار الذي يحفظ ويحقق مصالحها فقط، ولا يعنيها في ذلك الشعب السوداني وديمقراطيته المفقودة، أو الحكم المدني وأحزابه الضائعة، ولا يهم في ذلك التكلفة أو الثمن إن كان من دماء الشباب السوداني وأرواحهم، أو خصماً على استقرار البلاد سنين عدداً. الشاهد هنا أن “أمريكا” ظلت لأكثر من عقدين من الزمان، تدّعي أنها تحاصر السودان اقتصادياً “عقاباً” لحكومة الإنقاذ التي لم يوافق هواها هوى الأمريكان، لكن على أرض الواقع، ظلت واشنطن، طوال تلك المدة تحتفظ بسفارتها في قلب الخرطوم، ثم انتقلت لاحقاً إلى ضاحية سوبا، لتصبح أكبر سفارة أمريكية في الشرق الأوسط، وبالرغم من تعاقب الجمهوريين والديمقراطيين، على مقعد الحكم في البيت الأبيض، لم يحدث أن قرر أحدهما تصعيد الخلاف مع إسلاميي السودان، أو حتى إغلاق أبواب السفارة في الخرطوم، للوصول إلى مرحلة القطيعة الدبلوماسية، حتى في أحلك المواقف التي كانت تستدعي ذلك، مثل حادثة مقتل الدبلوماسي في ليلة رأس سنة ٢٠٠٨، أو عند وصول مئات المتظاهرين إلى أسوار السفارة الأمريكية في سبتمبر ٢٠١٢، بل حتى عندما قصفت الصواريخ الأمريكية مصنع الشفاء للأدوية بالخرطوم بحري في أغسطس من العام ١٩٨٨. إزاء واقع كهذا، يبدو من غير المنطقي التعويل على دور أمريكي في دعم الوفاق السوداني، بدون وضع اعتبار لما ستجنيه واشنطن من ذلك، لا سيما بالنسبة لأولئك الذين ينتظرون أن تضغط أمريكا على العسكر للدفع بهم إلى محطة تسليم مقاليد السُلطة للمدنيين، لسان الحال هنا يشير إلى أن “برهان” لم يقدم على إزاحة “قحت” من المشهد إلا بعد موافقة مُسبقة من أمريكا وسفارتها، التي لم تسم ما حدث في ٢٥ أكتوبر ٢٠٢١ بـ “الإنقلاب” واكتفت بدعوات خجولة لرد السُلطة إلى المدنيين، أما الحديث عن دعم الناشطين ومنظماتهم فما هو إلا محاولة لإضفاء تفاصيل درامية على المشهد، لينشغل الجميع بمحاولة إرضاء أمريكا، ودونكم تحركات السفير “غودفري” من لجان المقاومة إلى الطرق الصوفية، ومن البرهان إلى الأحزاب السياسية. والمؤسف، أن الجبهة الداخلية لبلادنا المنكوبة، منقسمة على نفسها حيال التدخلات الأجنبية، ولا توجد لدى أي طرف رؤية واضحة تتجاوز محطة “الاستقواء” بالأجنبي، إلى وضع تصور يحقق المصلحة العامة من التعامل مع المجتمع الدولي. عوداً على بدء، لا بُد من التذكير بأن الشعب السوداني “فقط” هو الذي دفع فاتورة الحصار الأمريكي، بما في ذلك التعويضات التي أصر على دفعها “رئيس وزراء الغفلة” حمدوك، وأي تدخل أمريكي جديد “مباشر أو غير” أيضاً سيدفع ثمنه الشعب فقط، أما الفاعلين في الساحة السياسية، والداعمين للتدخل الأجنبي، فهؤلاء “سيهربون” ويختفون. نعم، من المحتمل أن تشكل زيارة البرهان إلى أمريكا، تحولاً كبيراً في المشهد السياسي المعقد، وتعيد توزيع أوراق اللعب، إلا أن ما لا يجب إغفاله هو أن التحول هذا سيكون وفق ما ترى أمريكا ومصالحها، لذلك مهما يكن من أمر، فحل أزمات السودان يكمن في يد السودانيين وحدهم، وقديماً قالوا “ما حك جلدك مثل ظفرك”. ••• ودُمتُـم سالمين