تفجرت أزمة ندرة الأدوية المنقذة للحياة مجدداً في السودان خلال الأسابيع الماضية، ما يشكل عبئاً ثقيلاً على عاتق المرضى، خاصة مرضى السرطان.
أصيب العم محمد فضل السيد (73 سنة)، في عام 2020، بمرض السرطان، وقرر له الأطباء وصفة شهرية عبارة عن حقنة يصل سعرها إلى 600 ألف جنيه سوداني (نحو 300 دولار)، وعلى الرغم من ارتفاع سعرها مقارنة بظروفه المالية السيئة، إلا أن الدواء ساعد كثيراً في عدم انتشار الخلايا السرطانية، في حين حرصت أسرته على توفير قيمة الدواء مهما كانت الظروف.
قبل فترة، اختفت الحقنة من الأسواق، ويقول ابن شقيقه النور جبارة، لـ”العربي الجديد”، إنهم لم يجدوها في أي من الصيدليات، فنصحهم الطبيب باستخدام حبوب كبديل، لكن حالة عمه بدأت في التدهور، فذهبوا به إلى طبيب أخصائي، فأخبرهم أن تلك الحبوب لا تعطي نفس مفعول الحقنة، فقرروا البحث عنها مجدداً، وصولا إلى البحث في العاصمة المصرية القاهرة، لكن العم محمد تدهورت حالته قبل إيجادها، ومات.
لم تكن تلك الواقعة السودانية الوحيدة للوفاة بسبب عدم توفر الدواء، فالعديد من المرضى لقوا نفس المصير، أو تفاقمت حالاتهم الصحية بسبب أزمة الأدوية في الفترة الأخيرة، وهي أزمة متكررة منذ سنوات، لكنها استفحلت بالتزامن مع انتشار وباء كورونا في العام 2020، وبعد أن قررت الحكومة السودانية إلغاء قرار سابق بتخصيص 10 في المائة من حصيلة الصادرات غير النفطية لصالح استيراد الأدوية، مما زاد أسعار الأدوية بنسبة تفوق 500 في المائة، وقاد إلى ندرة مختلف أنواع الأدوية، وأفرز ظاهرة تهريب الأدوية من دول الجوار، وبيعها في السوق السوداء، وسط شكاوى المرضى السودانيين.
يقول الأمين العام لرابطة أصدقاء مرضى السرطان بمدينة ود مدني (وسط)، محمد عثمان يوسف، إن ندرة كثير من الأدوية الخاصة بعلاج السرطان تشكل كارثة حقيقية تهدد حياة الآلاف من السودانيين، بما في ذلك الأطفال، مبيناً أن الجرعات الكيماوية التي تعطى بصورة دائمة غير متوفرة في مراكز العلاج الرئيسية، ولا في هيئة الإمدادات الطبية المركزية بالخرطوم.
وأضاف يوسف لـ”العربي الجديد”، أن “هناك أزمات خاصة بعلاجات أخرى تصرف لمرضى السرطان، مثل المضادات الحيوية، والمكملات الغذائية، من بينها ندرتها، أو غلاء الأسعار في حال وجودها، وكثير من المرضى يحضرون إلى جمعية أصدقاء مرضى السرطان في ود مدني، طالبين مساعدتهم مالياً، باعتبار أن الجمعية كانت في السابق تدفع عنهم قيمة العلاج، لكن مع ضعف الميزانية، باتت الجمعية تدفع نصف القيمة، والضائقة المعيشية تحرم بعض المرضى في الولايات البعيدة من الوصول إلى مراكز العلاج، والمرضى وأسرهم يعيشون إحباطاً متكرراً حينما يأتون إلى المستشفى، فيطلب منهم انتظار وصول الجرعات”.
وينتقد يوسف القصور الحكومي في رعاية مرضى السرطان، وبقية الأمراض المزمنة، مؤكدا أن “الحكومة لا تضع الميزانيات الكافية للصحة، ولا تضع الهم الإنساني في مقدمة أولوياتها، ويعتمد المرضى على أهل الخير، وعلى منظمات المجتمع المدني”.
يقول المتطوع في مبادرة “جوانا أمل” لدعم الأطفال المصابين بالسرطان، علم الدين آدم إدريس، لـ”العربي الجديد”، إن “معاناة الأطفال المصابين بالسرطان أفدح من غيرهم، وإن كثيرين منهم يأتون من ولايات بعيدة للعلاج، فيتم إبلاغهم بعدم وجود جرعات العلاج الكيماوي وبقية العلاجات في المراكز المتخصصة، فيضطرون لشرائها بمبالغ فوق استطاعتهم، ومنظمتنا تحاول إيواء الأطفال المصابين ومرافقيهم في الخرطوم، أو ود مدني، لتخفيف الأعباء عنهم”.
ويؤكد الصيدلاني مجدي طه، أن النقص ليس قاصراً على أدوية بعينها، ويقول لـ”العربي الجديد”، إن “الأشهر الماضية شهدت انعدام أدوية السرطان، ودخول أغلبية الأدوية إلى البلاد عن طريق السوق السوداء، والتي تسمى محليا (الكُربشن)، فضلا عن ارتفاع الأسعار، فجرعة عقار “هيرسيبتين” وصل سعرها إلى 645 ألف جنيه سوداني، بعد أن كانت في حدود 160 ألفا، ما يؤكد أن وزارة المالية بدأت رفع الدعم عن أدوية السرطان، والخوف أن ترفع الدعم عن أدوية الكلي والكبد، فلو حدث ذلك، ستكون كارثة حقيقية للمرضى وأهلهم”.
ويرى القيادي في قوى إعلان الحرية والتغيير، عادل خلف الله، أن “ما يحدث في قطاع الدواء يعد نتاج سياسات ممتدة منذ عام 1992، وسارت عليها حكومة عبد الله حمدوك، وتصر عليها السلطة الانقلابية الحالية من دون أي اكتراث بقيمة الإنسان، أو احتياجاته”.
يضيف خلف الله: “تلك السياسات أخرجت الدولة عن وظيفتها الأساسية في توفير الخدمات، ومن بينها الأدوية، وتحرير سعر الدولار، بما في ذلك الدولار الجمركي، هو ما رفع أسعار الدواء، وساهم في ندرته، ولا حل للأزمة إلا بتغيير تلك السياسات، لأن خطرها ينعكس على المرضى، وعلى المنتجين في القطاعين العام والخاص”.