منذ أن تفشى فيروس كورونا في دول العالم بهذه الأرقام المرعبة، التي تجاوزت المليون إصابة وأكثر من ٥٠ ألف حالة وفاة حتى الآن، ونحن في مصر مازال لدينا أمل في أن تزول نكبة الوباء عن الذين إذا مكثوا في بيوتهم يومًا جاعوا، وآمال في تعديل الإدارة الحالية للبلاد لأسلوبها في التعامل مع الكارثة، حتى تصل لمرحلة “أن تأمر تُطاع” مع الملايين من المواطنين بالتزام كامل دون تجاوزات أو خروقات فردية في حظر التجول الجزئي المفروض على البلاد.
إلا أن الواقع الذي يعيشه المجتمع المصري، غير الذي يعيشه المسئولون عنهم في مواقع السلطة الحالية. فكيف تأمر عامل يومية بأن يلزم بيته دون أن توفر له قوت يومه؟ كيف نغدق ونتبرع لدول منكوبة بالمرض ولدينا أطباء لم تتوقف شكاواهم من قلة المستلزمات الوقائية حتى يستطيعوا ممارسة عملهم؟.
كيف تترك السلطة قطاع الصحة وحيدًا وتائهًا في فوضى عدم توفير المستلزمات والإمكانيات الكافية، وهو الأولى بالاهتمام على كل المستويات، حتى تأتي نقابة أطباء مصر لتطالب الحكومة بإفادتها ببيانات أعضاءها المصابين بالفيروس لمتابعتهم وأسرهم؟!
إذا كانت نقابة أطباء مصر ذاتها لا تعلم عدد المصابين بين أعضاءها والحكومة لم تخبرها بأية أرقام حتى الآن.. فما بالنا بملايين المواطنين الذين إذا أصيبوا فهم لا يعلمون؟ لأنه لا مسح طبي على كل العاملين بقطاع الصحة على الأقل لحصر المصابين وإنقاذهم، وذلك وفق شهادات عديدة من أطباء، ووفق ما تطلبه النقابة في بياناتها من الحكومة!
تضحية بعمال مصر
نعود سريعًا للمطالبات المستمرة لرجال أعمال ومستثمرين مصريين بضرورة تخفيض العمالة “تسريحها” أو عودتها للعمل في ظل هذه الأزمة، والحكومة تساعدهم في ذلك؛ بل تذلل لهم العقبات، وكأنهم دواجن جاهزة للذبح، فيتركوها تبيض لهم أولا بعرقهم ودمائهم حتى تنمو استثماراتهم ولا تهبط أسهم مجموعاتهم العملاقة في البورصة، ثم لا بأس من إصابتهم بالفيروس وموتهم، فالسوق مفتوح والمجتمع المصري تجاوز المئة مليون فما الأزمة بالتضحية ببضعة ملايين منهم لحماية ثروات الآخرين؟.
فيكفي أن لدينا قرارات بعودة مجموعات صناعية كبيرة للعمل بكامل قوتها، كشركة مصر للغزل والنسيج، وانتظار عدد من المستثمرين السماح لهم بعودة العمل وبالتالى عودة ما يقرب من ٤ ملايين عامل من العمالة غير المنتطمة في مصر.
السجون في مصر
عدد من دول العالم قاموا بالإفراج أو العفو عن الآلاف من السجناء خوفًا من تفشي الوباء، رغم أن ظروف أماكن الاحتجاز لديهم تختلف كثيرًا عن مصر، ورغم ذلك كان الرد هو القبض على المحامي المصري محسن بهنسي الذي طالب السلطات بالنظر في هذه الكارثة ودراستها، وسط دعوات كثيرة من نشطاء وصحفيين وبرلمانيين ومنظمات حقوقية حكومية وغير حكومية، إلا أن الأمر لن يصل حتى الآن إلى مسامع السلطة في مصر.
الدكتورة ليلى سويف واثنين من أفراد أسرتها منى سيف وشقيقتها أهداف سويف تم القبض عليهن أثناء مطالبتهن أمام البرلمان المصري بالإفراج عن السجناء خوفًا من تفشي الفيروس، وأخلي سبيلهن بعد ذلك على ذمة اتهامهم بالتظاهر دون ترخيص!
في السياق ذاته كان قد طالب بذلك جورج إسحق عضو المجلس القومى لحقوق الإنسان، وتكتل ٢٥_٣٠ البرلماني وفقا لضوابط محددة ولا تخالف القانون.
ومازلنا حتى الآن نكتب كل يوم عن قرارات حبس احتياطي لصحفيين ومحامين ونشطاء مصريين لم يطالبوا سوى بحقوق المواطنين الاقتصادية والاجتماعية والمدنية والسياسية، في مجتمع المواطن يعاني فيه من أزمة شديدة في الحصول على حقه في الحياة مثل سائر البشر!
ماذا يحتاج المواطن المصري؟
المواطن المصري بالطبع لا يريد فيلا بالساحل الشمالي وسيارة فارهة للتسكع بها وعمل نزهات التسوق اليومية. المصريون بسطاء وإذا وفرت له مقومات الحياة الأساسية، سيلتزموا بقرارات الحظر التي ستفرضها الحكومة حتى ولو كان كاملا على مدار أسابيع أو أكثر من ذلك، لكن الحكومة فتحت المجال لعدد من المبادرات الخيرية التي إن وفرت احتياجات محافظة واحدة لو بالغنا، فلن تستطيع توفير احتياجات الملايين في ٢٧ محافظة.
لذلك كان مبررا رفض أهالي قرية الهياتم بمحافظة الغربية غلق قريتهم دون تدبير أمور حياتهم بشكل كامل، وغضب الأهالي هنا كان بسبب أحد نواب البرلمان لأنه وزع عليهم مساعدات عينية بعبوات عليها صورته الشخصية!
كارثة معهد الأورام وحرية الصحافة
منذ ٢٧ مارس الماضي وانتشرت عدة تدوينات على موقع فيسبوك، تفيد بأن هناك حالات مصابة بالفيروس في معهد الأورام، ورغم ذلك لم ينطق مسئول بالمعهد أو وزارة الصحة عن هذه الكارثة شيئًا، حتى انفجرت الأزمة ولم تعد تحت السيطرة تمامًا بعد إخفاء مدير المعهد المعلومات الكافية، غير أنه لم يوفر سبل الوقاية كاملة للأطقم الطبية، حتى أصيب ممرض بالفيروس، وتم الإعلان أمس الجمعة ٣ إبريل الجاري عن إصابة ١٥ من التمريض والأطباء من العاملين بالمعهد القومي الأورام.
صرخات العاملين بالمعهد لم تتوقف حتى الآن، ولو كانت هناك شفافية واضحة في الإفصاح عن البيانات بشكل كامل وترك الفرصة للإعلام بأن ينقل الصورة بشكلها الحقيقي حتى يتحمل المواطن المسئولية مع الدولة كما تطالبه، لما كنا وصلنا لهذا الوضع الآن.
لدينا زملاء مسئولين عن ملف الصحة لا يعلموا شيئًا عن الأزمة إلا من بيانات الحكومة التي تشيد بها وسائل الإعلام ليل نهار، حتى فاجأتهم كارثة معهد الأورام.. لماذا حدثت؟ لأن مدير المعهد قرر السكوت وعدم فحص الحالة وأصبح لديهم ١٥ حالة -وهو رقم أعلنوه بعد اكتشاف حقيقة كتمانهم على الخبر- بدلا من حالة واحدة؛ بل إنه اتخذ إجراءًا عقابيا ضد مَن ساعد في نقل الحالة الأولى المصابة – وهي لممرض- لمستشفى العزل!
المصريون عموما باتوا في حالة تشكك عجيبة من قدرة الدولة على دعمها دولا أخرى بمستلزمات الوقاية، وفي الوقت ذاته هناك أطباء يشكون من نقص هذه المستلزمات بأكبر مستشفيات علاج الأورام في مصر!
حتى نقابة الأطباء جددت مطالبتها للحكومة بتوفير المستلزمات الطبية اللازمة لأفراد الأطقم الطبية، وضرورة عمل مسح طبي للعاملين بالمستشفيات للمخالطين ومخالطيهم حرصا عليهم وعلى ذويهم وتجنبا خطر تفشي الفيروس، إلا أننا نواجه ذلك بتصريحات عن تبرعات الدولة لبلاد أخرى – وهذا بالطبع أمر مَحمود- لكن مع الأخذ في الاعتبار أن هناك شعب كامل تتحكم في أموره هذه الدولة، وتأمره من ناحية بالتزام البيت وعدم تركه، ومن ناحية أخرى تفتح الأبواب أمام عودة العمل بالقطاع الخاص، وتتهاون مع مسئولين في مستشفيات يتركوا العاملين لديهم حتى يصيبهم المرض دون فحص وتحاليل ودون الإعلان عنهم حتى لا يصاب غيرهم.
لم تعد الوقائع السابق ذكرها، ولا مطالبات العديد من الشخصيات السياسية والبرلمانية والنشطاء والصحفيين والمحامين، كافية كي تتحرك الدولة وتتعامل مع الأزمة بشكل أكثر اهتمامًا من ذلك، وتعلم أن حرية الصحافة أمر هام في هذه الأزمة، وأن توفير الأمان الاجتماعي للمواطنين حتى يستجيبوا لقرارات الحظر ضرورة، وأن الإفراج عن السجناء ليس من الرفاهية أو من المطالب الشخصية للبعض، وأن تتحرك وتُهدئ من روع المواطن حقًا وتشعره بقيمته الحقيقية لديها، وأن “ربنا ساترها معانا” لكن بعد أن نقم بما هو واجب علينا تجاههم.