في إعتقادي أن حمدوك رجل دولة من الدرجة الأولى ، ولكنه جاء ولم يجد دولة ، وجد نفسه في شبه حظيرة يتناطح فيها المهرجون والأميون والإنتهازيون والجهلاء وذوي الإعاقة الذهنية ومجرموا الحروب والطامعون والجشعون وأصحاب الأمراض النفسية وأطفال السياسة وصباياها ، (وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ).
حمدوك لم يجد دولة ، وجد نفسه في مستنقع آسن بقيح الأحقاد وفضلات الحسد وعفن العنصرية ، جاء ووجد نفسه في بحيرة عكرة الماء يريد أن يصطاد منها جيوش من الحركات المسلحة وبقايا أحزاب متهالكة وكمية لا تحصى من أحزاب مستجدة لا تفرز (الألف من كوز الدرة) ، ومكونات أهلية إنبعثت من تحت الأنقاض ووجد الجميع الفرصة في ساحة السياسة السودانية السائبة وميدان الفوضى الجاهلي وسوق الله أكبر ، فاختلط الحابل بالنابل ، وتسلح الجميع بأسلحة السماسرة والبياعين المتجولين ومكرفونات أصحاب الأكشاك وأصبح الشعار (علينا جايي) ، هذا ما نعيشه اليوم ، لا توجد دولة ، ولا يمكن وصف الوضع الحالي بأي مفهوم تعريفي من مفاهيم كيان يسمى دولة.
جاء حمدوك وفي جعبته نسخة سودانية من (البروغماتية) الحديثة مضمونة النجاح إذا وجَدّت الفرصة والساحة والمجال والأرضية والإستعداد البشري لتطبيقها ، جاء بها وهو الشاهد والمشارك على صياغة وتطبيق ونجاح نسخ أخري في (دول) أخرى ، جاء بها وأعلن عنها ولكنه لم يكن يعلم أن الجماعات المختلفة في حظيرة السياسة السودانية لم يسمعوا عن هذا المصطلح الغريب عن أفهامهم ، فبعضم لا يفرز بين البرغماتية وبين صفة وإنتباه ، عدّه البعض كفراً مباح ، وحسبه آخرون أنه منفستو ماركس وإنجلز بعينه ، وذهب البعض إلي أن حمدوك مصاب بمس من الجان ، وتشدق البعض بأن المجتمع السوداني مجتمع مسلم لا يقبل مثل هذه الأفكار الغربية الملحدة ، وأكد آخرون أن في هذا إفساد لأخلاق الشباب ، ولم يلتفت البعض لحديث حمدوك أصلاً ، باعتبار أنه فلسفة لا تلزمهم ، فلم يكرر حمدوك (سيرة البرغماتية) ، وإستبدلها بمصطلحات أخرى إعتقدَ مخطئاً أنها أقرب إلي الأفهام ، فتندر بها من تندر ، وضحك منها من ضحك ، ولكنه ترفع عن طفولة السياسيين ، أو من يعتقدون أنهم سياسيون ، ولم ينساق إلي المهاترات ، ولم يرد هجوماً بهجوم ، ولا إساءة باساءة ، يعمل في صمت الحكماء ، وإصرار من حدد الهدف وإتخذ إليه سبيلا ، يعمل بتفان من خلف كواليس مسرح العبث الملئ بالأرجوزات ، يفاجئ الساحة في كل حين بإنجازات ضخمة ، لم تكن لتتحقق لولا دهاءه الهادئ ، على الشعب السوداني اليوم أن ينتفض ويثور ويبعد العساكر والمتعسكرين عن السياسة ، وأن يترك الأمر بعد ذلك لزعيم قيضه الله للسودان ، وإذا أضاع الفرصة فسوف يبكي هذا الشعب على أنقاض دولة كان إسمه السودان.
يعيش حمدوك الآن بين مطرقة ضخمة تتكون من عساكر غليظي الفهم تُخان العقل دنيئئ النفس يساندهم متعسكرون بالتبي لا يفقهون في (البطيخ) حبة خردل ، يتقدم كل هذا الحشد الشاذ جنرال مريض مرتبك مرتجف لا تفارقه كوابيس الأرواح التي تسبب في إزهاقها ، يحلم ويعمل على تحقيق حُلم مدعاة بانه سوف يحكم السودان يوماً كرئيس ، وتوهم أن ( برهان) الرؤيا هو أنه مولود يوم 4/7 وأن الوثيقة الدستورية التي (أنقذت السودان) ، حسب تعبيره ، وُقّع عليها أيضاً في يوم 4/7 ، وهذه المصادفة ، بالنسبة له ، معجزة من معجزات الله ، وكرامة من كرامات الأولياء ، وهكذا ، ولأن مهمة حكم السودان تكيلف إلهي خاص به فيجوز له (قدس الله سره) يجوز له أن يفعل مايشاء لتحقيق هذه الإرادة الإلهية ، فاستعار بعض أساليب بني أمية ومكرهم للوصول إلي الحكم ، فقرر أن يُحدث في البلد هذا الإنقلات الأمني الحاد ، وعمل على إثارة الفوضى وخلق الأزمات وإيقاظ الجهويات ، يُطلق تصريحات غير مباشرة كل يوم ، طلباً لتفويض مباشر من الشعب السوداني ليكرر سيناريو مثَلَه الأعلى (عبدالفتاح المصري) ، ولا يهمه في سبيل تحقيق غايته أن يتحطم الوطن ويفتقر المواطن إلي أساسيات المعيشة ومقومات الحياة الكريمة ، إن (عبدالوهاب السيسي) يا سادتي مثله مثل الكثيرين في حياة الشعوب ممن أذاقوهم الويل ، ولنا الويل إن سمحنا له بتقويض المرحلة الإنتقالية وفرملة الديمقراطية والوصول إلي الكرسي عبر إنقلاب أبيض أو أحمر. آخر ما خرج به علينا صاحب الحُلم بعد أن فكّر وقدّر أن الحل في حل الحكومة ، وتكوين حكومة جديدة ، ونحن نقول له أن أصغر شافع في الشارع السوداني فاهمك يا برهنة ، سلم رئاسة مجلس السيادة للمدنيين ، ونحن عارفين إنه القائد الأعلى للقوات المسلحة حسب الوثيقة الدستورية هو مجلس السيادة وليس شخصك.
ينوب جنرالنا الحالم هذا جنرال آخر ، ينوب عنه في عشرين منصب ، يخرج على الناس كديك نزار قباني ينتف دجاج الحارة كل صباح ، كالمنبت لا زاداً يُبقي ولا أرضاً يقطع ، أميٌّ ساقته عبث الأقدار إلي الساحة السياسية السودانية المنكوبة ، يحلم هو الآخر ، بكل جهله الكامل الشامل ، يحلم بإبعاد الحالم الأكبر والوصول إلي الكرسي أولاً في لعبة الكراسي الدنيئة (المدورة) في خرطوم العجائب ، {طيب ، ومالو ، ما يحلم ، إذا التوم هجو وبرطم ومناوي والجاكومي وترك ومريومة وسلك وجبريل ووووووو بيحلموا ، أيي ، يحلم ، المافي شنو؟؟}.
يعيش حمدوك بين هذه المطرقة العسكرية المتعسكرة وبين سندان ضخم يتكون من مدنيين من سواقط السياسة وحثالة المجتمع ، يصبحون كل يوم بأنانية زائدة ، وحب ذات مستحكم ، كل ما يفقهونه في السياسة هو ربطة العنق وإمساك المكرفونات والمساسقة بين المؤتمرات الصحفية ، يلهثون وراء المناصب والمخصصات ، وآخرون عطالى ، إذا سُئلوا عن شئ يحيرون جوابا ، ولكنهم يلهثون على كل حال ، حمدوك لم يجد دولة ، فحمل على عاتقه تأسيس دولة أولاً ، يعمل في صمت الحكماء وصبر الصابرين على (البلاوي) وما أكثرها في الساحة السودانية ، لا يقل حمدوك عن الزعماء آباء الدول التي إنطلقت في بضع سنوات ، ولكن مصيبة حمدوك أنه في المكان الخطأ في الوقت الخطأ بين الناس الخطأ.
قلتُ لصديقي بالأمس أنني حزين لأن العمر إمتد بي فرأيت ما يحدث في السودان الآن ، فما يحدث كارثة إنسانية كنت أرجو أن أموت ولا أشهده.
أما حمدوك فأهديه أبيات من شعر الإستفهام منسوبة إلي بشار بن بُرد:
مَتى يَبلُغُ البُنيانُ يَوماً تَمامَه *** إِذا كُنتَ تَبنيهِ وَغَيرُكَ يَهدِمُ
فلو ألفَ بانٍ خَلفهُم هادمٌ كفى *** فكيف ببانٍ خلفَهُ ألف هادمُ
فإن عنــاءً أن تـُفهَّمَ جــاهلاً *** يظنُ اقتئاتاً أنَه منكَ أفهُمُ
كان الله في عون الوطن وعون حمدوك
محمد فقيري