على مر التاريخ إشتهر السودان باحتياطياته الكبيرة والوفيرة من الذهب وطور الاكتشاف بنشاط صناعة و تعدين الذهب في السنوات الأخيرة، وحيث إنتاج الذهب احتلت بلادنا المرتبة الثالثة في إفريقيا بعد جنوب إفريقيا وغانا ومع ذلك سجل الخبراء مؤخراً انخفاضاً حاداً في إنتاج الذهب في السودان وفي الوقت نفسه يتزايد حجم تهريب الذهب من البلاد بوتيرة مستمرة حسب وسائل الإعلام والمراقبين ، ويبلغ عجز ميزانية الدولة للأرباع الثلاث الأولى للعام الحالي 2022 3.5 مليار دولار مقارنة بـ 2.4 مليار دولار لنفس الفترة من العام الماضي. مخاطر صحية بحسب التقارير المقلقة للسكان المحليين من ولاية نهر النيل حول الانتهاكات في الاستخراج غير القانوني للذهب من “الكرتة” بدأ المواطن في فهم الوضع هناك . وتتضح معالم المخاطر الصحية في المواد المستخدمة ومن المعروف أن الزئبق والسيانيد يستخدمان في الاستكشاف الجيولوجي، وكذلك في استخلاص الذهب. في الوقت نفسه، يعد السودان من الدول التي تستخدم هذه المواد بشكل كبير للتعدين الخاص حيث يتم إستيراد 60 إلى 100 طن من هذه السموم سنويا إلى السودان من الصين وهونغ كونغ والاتحاد الأوروبي ويشكل الزئبق والسيانيد أكبر خطر على صحة عمال المناجم أنفسهم وصحة سكان المناطق المجاورة، ويتسبب الزئبق في خلل وظيفي وفشل في الكلى، كما يساهم في تلف الجهاز العصبي وارتفاع مخاطر الإصابة بسرطان الدماغ، أما ما يخص السيانيد فكل شيء
معروف عن مخاطره. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه في عام 2014، وقعت حكومة السودان، ولكنها لم تصادق على اتفاقية ميناماتا (Minamata convention on mercury) بشأن الزئبق التي تنظم إدارة الزئبق ونفاياته. وعلى الرغم من ذلك، ووفقا لسكان محليين من ولاية نهر النيل، في أسواق أبوحمد والعبيدية وود رملي، فإنه بعد استخراج الذهب من الخام بواسطة “المطاحن”، لا يتم نقل معظم المخلفات إلى المصانع للمعالجة والدفن اللاحقين، ولكن تتم معالجتها بشكل غير قانوني بالسيانيد والأحماض والمواد السامة الأخرى المحظورة بطريقة بدائية في الأسواق المذكورة. مناشدات وقد دعا المواطنون السلطات منذ مدة طويلة إلى وقف هذا النشاط غير القانوني والخطير وتنظيم التخلص من مخلفات التعدين وفقاً للقانون وهناك الكثير من هذه الشكاوي، وقد تم تنظيم العديد من التجمعات الإحتجاجية والإضرابات ولكن السلطات تقف متفرجة دون أي ردة فعل أو استجابة. كما تم تأكيد معرفة السلطات بما يحدث من خلال حقائق أخرى معروفة للمواطنين في نهر النيل فعلى سبيل المثال على الطريق من البودي إلى ود رملي، أمام مدينة عطبرة وليس بعيداً عن مدينة بربر، تنقل قوافل تصل إلى خمسين شاحنة الكرتة بشكل غير قانوني من الأسواق كل ليلة إلى منطقة محمية عسكرياً كما يتم نقل المخلفات السامة على الطرق العامة في انتهاك واضح لجميع معايير السلامة المعروفة، مما يجعل القيادة على هذه الطرق خطير للغاية على الصحة. كما هو الحال في التعدين في الأسواق، كذلك هو في المنطقة محمية عسكريا المذكورة سابقا، يتم استخراج الذهب بشكل غير قانوني من الكرتة في انتهاك للمتطلبات القانونية، دون دفع الضرائب، ويتم تهريب هذا الذهب لاحقا، وتوريد الأموال في حسابات أجنبية لأشخاص مجهولون. َتدمير البيئة وأدت طرق التخلص من نفايات التعدين هذه إلى موت الأشجار وإلحاق الضرر بالأراضي الخصبة وإلحاق أضراراً كبيرة بالنباتات والمنتجات الزراعية. هل تعلم أين يتم التخلص من النفايات الناتجة عن تعدين الذهب غير القانوني؟ يتم ذلك في الأنهار وبعد ذلك تتم الدورة التالية تمتص الأسماك الزئبق بتركيزات عالية، وتتغذى المجتمعات المحلية حول الأنهار على هذه الأسماك وبالتالي، حتى لو لم يتعرض الشخص مباشرة للزئبق أثناء تعدين الذهب، يمكنه التعرض له من خلال الطعام. وشراب المياه للإنسان والحيوان مايعني تدمير البيئة والإضرار بصحة الإنسان. يعاني نهر النيل أكثر من غيره، حيث يتم إلقاء معظم النفايات فيه، وهذه النفايات لا تقوم بزيادة الفيتامينات والعناصر الأخرى بل على العكس تماماً . والأبقار والأغنام أيضا تموت باستمرار بسبب الأمراض الناتجة عن السموم الكيميائية التي تدخل جسمها من خلال الطعام والماء. أستاذ الكيمياء والمنسق الوطني السابق لاتفاقية ميناماتا في وزارة البيئة أسامة سيد أحمد حسين علق على استخدام السموم الكيميائية المحظورة دوليا فقال: “تسبب استخدام الزئبق والسيانيد في تعدين (الذهب) الى موت الدواجن والحيوانات، وكذلك في ضرر كبير ومعاناة الزراعة ومن الأشياء الخطيرة أيضا أن الأمطار التي تهطل في هذه الإماكن تجلب مخلفات التعدين من الزئبق والمواد السامة إلى مياه نهر النيل، مما يعني أن الأسماك التي يأكلها الناس ملوثة. وأضاف: “يمكن أن يؤدي استخدام مياه النيل في الزراعة إلى تدمير الأراضي التي تزرع فيها أشجار النخيل والفواكه والخضار”. الذهب مابين النعمة والنقمة بالإضافة إلى خطر وقوع كارثة بيئية في الولاية بسبب الأنشطة غير القانونية لعمال مناجم الذهب، لا تتلقى الدولة مئات الملايين من الدولارات كضرائب، والمصانع التي حصلت على تراخيص وتلتزم بجميع متطلبات التشريعات الضريبية مهددة بالإفلاس ، وهذا قد يحرم السودان وولاية نهر النيل في المستقبل من أكبر دافعي الضرائب، فضلا عن تفاقم أزمات قطاع التصنيع بشكل خطير. في الوقت الذي يقوم به المعدنون و “داعميهم” بتعبئة جيوبهم بالمال، يبقى المواطنون العاديون خارج هذه المعادلة، ويفقدون أغلى ما لديهم وهو صحتهم بالإضافة إلى ذلك يتم نهب الثروة التي تخص شعب السودان ويتدفق الذهب والعملة إلى جيوب المعدنين عديمي الضمير. ونتيجة لذلك فإن السكان يزدادون فقرا، وتكلفة المعيشة آخذة في الإرتفاع فالأموال التي كان من الممكن توجيهها إلى الدعم الاجتماعي، على سبيل المثال لإعادة بناء المنازل بعد الفيضانات، وإعانة العائلات ذوي الدخل المحدود، هذه الأموال التي كان يجب أن يتلقاها كل سوداني يتم نهبها تحت سمع وبصر الجهات المعنية . الحقائق المعلنة تشهد ليس فقط على حجم الكارثة البيئة، ولكن أيضا الكارثة الاقتصادية التي تتكشف اليوم في ولاية نهر النيل لماذا السلطات لا تستجيب؟ من سيوقف هذه الكارثة؟ إلى متى ستستمر معاناة السودانيين؟ رغم توافر هذا المعدن النفيس الذي يبقى محيراً في معادلة وجوده مابين النعمة والنقمة.