فرغت لجنة تفكيك التمكين من تلاوتها للقرارات في المؤتمر الصحفي، وباتت العادة كم مهول من الممتلكات من أسهم شركات وعقارات وأراضي مسجلة بأسماء أفراد منسوبي للنظام البائد.
والحقيقة أن الأرقام التي تم الإعلان عنها تُشعِل الشيب في الرأس من شدة الهول، أرقام أكبر من أن توصف بأنها “خيالية” أو “خرافية” إذا ما تم الحديث عنها كممتلكات لأفراد.
أبرزها الثروة الطائلة التي بلغت أكثر من مليار دولار هي قيمة أسهم تتبع لعبد الباسط حمزة، إضافةً إلى كم الأراضي المملوكة للحاج عطا المنان، والأراضي المملوكة لمنظمة الدعوة الإسلامية،
والتي قررت فيها لجنة تفكيك التمكين إستردادها لمصلحة وزارة المالية والتخطيط الإقتصادي.
هذا الأمر تحديداً يستحق الوقوف طويلاً. فالكثير من الحبر لابد له أن يسيل على مجلدات من الصفحات، إذ أن الدروس والعِبر التي من المفترض أن تؤخذ من سلوك أفراد النظام البائد لابد لها أن تساهم في صياغة الشكل الجديد للدولة المبنية على المؤسسية
والقانون وجملة الأخلاقيات التي ترسم العقد الإجتماعي الجديد والذي يمنح الجميع إمتياز المساهمة في عجلة الإنتاج للإستفادة المشتركة شعباً وحكومةً.
هل تكمن الغرابة في الفساد
لا تكمن الغرابة في كون أن الفساد يتعلق بالسلطة، فالأمر قد يحدث في أي دولة من دول العالم. لكن الغرابة تكمن في أن الفساد يكون بالقدر فوق المعقول على مستوى الأرقام فيما تخص الممتلكات، ما أدى بالضرورة إلى أن يعاني هذا الشعب الأمرين طيلة الثلاثين سنة الماضية.
وكما يعلم الجميع؛ أن سلطة الحركة الإسلامية التي جاءت بالسلاح؛ كيف لها أن ساهمت في تدمير مؤسسات الدولة وإعادة صياغتها من جديد تحت مظلة التمكين، بحيث تقوم بامتلاكها وامتلاك مفاصلها عبر تعيين تلك الكوادر التي تدين بالولاء الكامل لمنظومة السلطة.
وبهذه الطريقة؛ فإن كل المؤسسات التي تملك صلاحيات صياغة القانون بالإضافة إلى المؤسسات التنفيذية باتت في يد سلطة النظام البائد، وهذا ما أدى إلى تحكم في ممتلكات الدولة كيفما كان تشاء حكومة النظام البائد.
لكن المعروف عن الكثير من الدكتاتوريات أنها كانت تحرص كل الحرص على ضمان الإستقرار الإقتصادي حتى تضمن قوة عجلة الإقتصاد، التي تضمن بدورها إستمرارية الدولة، وبالتالي إستمرارية المنظومة الحاكمة.
هذه القوة تضمن إلى حد كبير الحفاظ على بقاء الكادر البشري في حالة إستقرار وبالتالي خدمة منظومة الدولة.
وهنا تكون السلطة الدكتاتورية في حالة معرفة تامة بضروريات إستمرار وتيرة عجلة الإقتصاد، وبالتالي تسيير حركة السوق بالطريقة التي تضمن الإستقرار على المستوى الإقتصادي.
لكن ما فعلته سلطة النظام البائد هو عكس ذلك تماماً. إذ أنها ضربت بيد من حديد جملة المؤسسات بكوادرها وكافاءاتها وتعيين منسوبيهم على أساس الولاء، وبمقاييسهم الحزبية، والتي كانت بالتأكيد بكفاءات أقل مُقارنةً بالكفاءات المهنية الحقيقية.
ساهمت هذه السياسة في إضعاف عجلة الإقتصاد، كانت أولى مؤشراتها هو التضخم الذي بدأ من بداية تسعينيات القرن الماضي، ولم تستقر فيه العملة السودانية إلى في أوائل العشرية الماضية في القرن الحالي،
تحديداً في قيمة جنيهين ونصف مقابل الدولار الواحد، والتي كانت وقتها في الأصل هي 2500 جنيه قياساً على الجنيه السوداني القديم قبل مجيء حكومة العهد البائد.
لم تراعِ سلطة العهد البائد إلى هذا الأمر تحديداً، فالهم الأول بالنسبة لجُل الأفراد هو ما سيدخل إلى خزائن أفرادهم من أموال،
الأمر الذي فتح باب المضاربة في ممتلكات الدولة لمصلحة جهات عديدة، والذي فتح باب بيع ممتلكات الدولة لجهات أجنبية من جهة، وانتزاع ممتلكات أخرى من المال العام لمصلحة هؤلاء الأفراد.
والذي أطال عمر النظام البائد في ظل ذلك التدهور هو إتفاقية السلام الذي كان مع الحركة الشعبية بقيادة الراحل الدكتور جون قرنق،
إذ أن الأموال التي تبددت بسبب الحرب هي الأخرى كانت السبب في الضائقة الإقتصادية التي كان يعاني منها الشعب السوداني آنذاك.
إتفاقية السلام فتحت الباب مرة للإستقرار الإقتصادي، وكانت السبب في تحقيق معدل نمو بلغ إلى نحو 7% أو ما يزيد (إن لم تخني الذاكرة)
رغم الخلل الكبير الذي كان في هيكل الدولة ومؤسساتها آنذاك، الأمر الذي يطرح تساؤلاً، ماذا لو لم تكن مؤسسات الدولة بتلك الترهل ولم تكن هنالك منظومة الفساد الضخمة للنظام البائد؟
سنوات الاستقرار لم تدم
لكن سنوات الإستقرار لم تدم طويلاً، وسرعان ما انكشفت حقيقة ترهل النظام وضعفه على المستوى الإقتصادي بمنظومة الفساد التي لم تكن تمتلك أية رؤية إستراتيجية للإقتصاد السوداني.
فمنذ إنفصال الجنوب، ظهرت الحقيقة المرة بالشكل المشوه للإقتصاد السوداني في ظل وجود منظومة الفساد وغياب عجلة الإقتصاد التي تساهم في الإستقرار للدولة، فبدأت سلسلة التضخم التي وصلت إلى المرحلة الحالية التي من المفترض تسميتها مرحلة الإنهيار الإقتصادي.
وهذا ما فتح الباب على مصراعيه لأفراد النظام البائد لاستباحة ممتلكات الدولة، والدخول في مزيد من عمليات الفساد من غسيل أموال وبيع الممتلكات العامة،
والمتاجرة بالمشاريع التي كانت من المفترض أن تكون لمصلحة الدولة في المقام الأول، فكان من الطبيعي أن تفشل تلك المشاريع، مثل مشروع سد مروي الذي أصبح بعد تأسيسه وبال على هذه الدولة.
والحقيقة التي تدعو للإستغراب؛ لا تكمن في أن سلطة النظام البائد قد أتت لنا بلصوص إستباحوا هذه الدولة، وإنما تكمن في أنها أتت لنا بلصوص؛ أبسط ما يمكن وصفهم به؛ بأنهم أغبياء.
ذلك لأنهم كانوا يمارسون فسادهم بسرقة الممتلكات عياناً بياناً مُعولين بذلك على حماية أنفسهم بالقبضة الأمنية بمؤسسات القوات النظامية المُخترَقة بواسطة كوادر الحركة الإسلامية من جهة، ومليشيات القوات العسكرية الموازية للقوات النظامية من جهة أخرى.
والمثير للضحك؛ أن منسوبي النظام أنفسهم كانوا يتحدثون بملئ الفم؛ فأنهم سيحكمون لأجيال وأجيال قادمة بمقولات على شاكلة “ما بنسلمها إلا لعيسى” و”سنحكم 40 سنة أخرى بعد ال30 سنة”، معتقدين بذلك أنهم قادرين على ضرب كل ما يهدد بقاءهم في السلطة.
وهذا الغباء على مستوى السرقة والذي عفى عليه الزمن منذ أن انتهت الإقطاعيات في القرون الوسطى في أوروبا؛ لم يكن وبال على الدولة فحسب، بل كان وبال عليهم أيضاً.
إذ أن حس الجبروت التي كان يتملك أفراد النظام البائد والجشع وحب السلطة؛ أشعل فتيل الخلافات بينهم في السنوات العشر الأخيرة تحديداً، خصوصاً فيما يخص خلافة البشير،
وهي الخلافات التي وصلت أوجها في عام 2018، الأمر الذي أضعفهم أمام الشعب الذي حاول مراراً وتكراراً في الشوارع لإزاحتهم عن السلطة؛ ونجح الشعب في ذلك في ثورة ديسمبر المجيدة.
ومغزى القصة من الثلاثين عام هو أن النظام البائد أتى بلصوص أغبياء، لم يجيدوا فن الإستفادة من السلطة بزيادة وتيرة حركة الإقتصاد باستثمارات حقيقية وملموسة للحفاظ على الشعب،
وإنما كان هم هؤلاء اللصوص هو الإستفادة اللحظية على حساب كل شيء، فكانت النتيجة هي إنهيار الإقتصاد السوداني.
الحقيقة
والحقيقة التي لابد أن نعترف بها جميعاً هو غياب العقلية الإستراتيجية الحقيقية التي من شأنها أن تخطط وتنفذ للإستفادة لسنوات طويلة. فعقلية النظام البائد لم تكن سوى عقلية لصوص جُل اعتمادهم في الإستفادة من السلطة هو مجرد “سمسرة” في حق ممتلكات هذه الدولة،
إلتقى فيها “المتعوس” و”خايب الرجا” كما هو معروف في العامية السودانية على إلتقاء السيئين من كل النواحي.
فيا تُرى هل سنشهد سلطة قادمة حقيقية تعمل بعقلية إستراتيجة لتأسيس عجلة إقتصاد حقيقية؟، خصوصاً أن هذه الثورة ما زالت في خِضم الصراع لأجل الوصول إلى التداول الديمقراطي للسلطة عبر صندوق الإنتخابات،
والشعب السوداني في الوقت الحالي ما زال يحرس ثورته رغم المشاكل والتخبطات الماثلة حالياً في الساحة السياسية السودانية.