صناعة ثورة الندامة صناعة غربية

في آخر عام 2018 التقى المرحوم أبو هريرة حسين بالسعودية بطه الحسين، وهناك قال له طه: إن البشير تبقى له في الحكم حوالى أربعة شهور، وإن أطرافاً فاعلة قررت التخلص منه، ولما رجع أبو هريرة إلى السودان حَاكَ حديث طه عن نهاية البشير في صدره، فأخبر به البشير.
ومعلوم أن طه كان قد اشتراه ابن سلمان وابن زايد كلاهما منذ أن كان مديراً لمكتب البشير وقتها، وبلغ ثمن شرائه أكثر من مائة وأربعين مليون دولار، وفقاً لبيانات المصارف Banks Statements التي سلَّمها هو نفسه للبشير حين طلب منه إبراز ما يثبت براءته!!! ولعل المسكين من شدة ذكائه كان يظنها برهان براءته!!
وكانت بيانات المصارف تبيِّن المبالغ والأقساط التي صرفها طه لشراء ڤلل في الإمارات ومنازل فاخرة في المغرب. وفي نفس اليوم عزله البشير من موقعه كمدير لمكاتب الرئيس.
وحين كان مديراً لمكتب البشير استطاع حجب البشير عن كثير من الإسلاميين الذين كانوا ساسة محنكين، بل إنه كان يوغر صدره ضد بعضهم ليحكم سيطرته عليه ويصد عنه من كان يمكن أن ينصحه.
وللحقيقة فقد كان طه وقتها ينفذ مخطط الإمارات والسعودية بعزل البشير عن الإسلاميين ذوي الدراية بخبايا السياسة الداخلية والخارجية. وبلغت ثقة البشير بطه – جراء قدرته على استعطاف البشير – أن جعله مسؤولاً عن العلاقات السعودية والإماراتية.
حدّثني من أثق فيه وقال: كان للسودان بأبي ظبي سفير من الإسلاميين هو السفير أحمد يوسف. وليخلو له الجو أقنع طه البشير – كذِباً – أن الإماراتين محتجين على تعيين سفير صغير في أبوظبي. وكان السفير المعني هو السفير أحمد يوسف. هذا في حين أن سفير الإمارات في الخرطوم كان وزيراً مفوضاً!!! وبالفعل نُقل السفير أحمد يوسف من الإمارات. لم يكن طه سيحس بالاطمئنان في وجود سفير من الإسلاميين ولذا استسهل الكذب للتخلص منه.
في يونيو 2017 عزل البشير طه كمدير لكل مكاتبه، وقد جاء ذلك العزل بعد فوات الأوان، لأن طه أمّن موقفه الشخصي بحصوله على الجنسية السعودية بجانب الملايين التي أودعها البلدان في حسابين باسمه في دبي. وجاء قرار العزل بعد فوات الأوان أيضاً لأن طه سَرّب الكثير من أسرار الدولة للإمارات والسعودية
هرب طه في طائرة الساعة 3 صباح اليوم التالي للقائه بالبشير في يونيو 2017 إلى السعودية. وهناك تفرغ لعمله التجسسي تماماً. وعبر صلاته بأولاد سلمان وأولاد زايد حصل على المعلومات التي تفيد أن العائلتين الحاكمتين في السعودية والإمارات قلبتا ظهر المِجَنْ للبشير. وهذا ما أسَرّ به لأبي هريرة. وقد سُرّ البشير من أمانة وإخلاص أبي هريرة فعيَّنه وزيراً للشباب في آخر اسبوعين قبل الإطاحة به.
وفي أيام المظاهرات في شهر يناير 2019 ، وعقب لقاء تلفزيوني أجراه الإعلامي الشهير الطاهر حسن التوم بعلي عثمان محمد طه إتصل به طه عثمان وقال له ” قول لزولك ده النظام ده خلاص انتهى ونحنا قفلنا ليه كل المواسير ” يقول ( نحن ) !!! ألا تذكركم ( نحن )هذه بمقالة القُرادة التي قالت : ( أنا والجَمَل جبنا العيش من القضارف ) !!!
وللحقيقة فقد أصيبت كلا السعودية والإمارات بفوبيا من الإسلاميين بعد ثورات الربيع العربي في 2011، وخاصة بعد صعود نجم الإسلاميين في تونس وفي اليمن وفي مصر التي انتخبت الإسلامي دكتور محمد مرسي رئيساً. وكان مبعث الضيق لدى العائلتين الحاكمتين هو تملُّك الجماهير لقرار تحديد نوع الحكم الذي يرغبون فيه وعبر انتخابات. وترى كلا العائلتين أن مثل هذا السلوك الجماهيري مُعدي، واعتبرتا أن الإسلاميين مهدد وجودي Existential Threat لحكمهما كما صرح ابن زايد مرة لنيويورك تايمز.
وفي زيارة للبشير للإمارات في عام 2017، طلب منه محمد بن زايد التخلص من الإسلاميين أو تضييق الخناق عليهم، ففوبيا محمد بن زايد من الإسلاميين أوصلته درجة إنفاق ملايين الدولارات في بلاد بعيدة كبنغلاديش، دعْ عنك البلاد العربية. وهذا الخوف من الإسلاميين كان سبب تجنيده وابن سلمان لطه.
حدثني أحد الوزراء الذين رافقوا البشير في زيارة للقاء الملك عبد الله عقب ثورات الربيع العربي، أن الملك كان غاضباً من البشير وكان فَظّاً في تعامله معه. وذكر أن البشير كان يُنَوّر الملك ببعض إنجازات حكومته في مجالات عدة ومن بينها التصنيع الحربي الذي أنتج فيه السودان قذائف الكاتيوشا والآر بي جي والمدفعية والمدرعات، وقال له إننا استطعنا تجميع طائرة في مصانعنا الحربية. ولكن الملك علَّق على ذلك بطريقة تعوزها المجاملة، إذ قال للبشير “لا تركبوها بطيح بكم”. ومضى الملك في التعبير عن غضبه من الإطاحة بحسني مبارك، وللعجب حمل البشير مسؤولية ذلك!!! ومن بعدها شهدت العلاقات فتوراً بين الجانبين ولم يعد لها الدفء إلّا بعد قرار السعودية تشكيل حلف لمحاربة الحوثيين في اليمن في مارس 2015، واحتياجها من ثم لجنود سودانيين.
من ناحية أخرى، في 26 أكتوبر 2018 زار رئيس الوزراء الإسرائيلي مسقط، وكانت العلاقات مع السودان من بين الموضوعات التي ناقشها مع السلطان وطلب منه التوسط لدى البشير لإقامة علاقات مع إسرائيل.
وبالفعل أرسل السلطان مبعوثاً خاصاً للبشير ليطرح عليه الرغبة الإسرائيلية، ولكن البشير حمّل المبعوث تحياته وشكره للسلطان ثم رفض بلطف إقامة علاقات مع إسرائيل.
في عام 2017 وعام 2018 استطاعت أميركا والدول الغربية بالتنسيق مع السعودية والإمارات تضييق الخناق على الاقتصاد السوداني، حتى اضطرت حكومة البشير لرفع ثمن الخبز لجنيهين، وظهر شُح في السيولة في المصارف، وجراء ذلك اندلعت احتجاجات جماهيرية، ولكن تلك الاحتجاجات لم تكن سوى قمة جبل الجليد The tip of the Iceberg التي تُخفي تحتها مخططاً ضخماً حاكته أميركا وبعض الدول الغربية وإسرائيل والإمارات والسعودية.
ومن كان يعتقد أن الاحتجاجات الشعبية هي التي أطاحت بالبشير فهو ساذج أو جاهل بمفاعيل مخطط كبير كان يجري الإعداد له عبر سنوات. وسنسعى لبيان أدوار القوى المختلفة في تنفيذ ذلك المخطط. وما سردي للوقائع أعلاه إلّا بيان لإطار عام وتوطئة لما حدث في ديسمبر 2018 وما بعده.
دكتور ياسر أبّشر عبد المجيد