ساد هدوء عجيب أجنحة علاج المصابين بفيروس كورونا في مدينة لودي الإيطالية، رغم أن أروقة المستشفى كانت تعج بأعضاء الفرق الطبية. ويقول ستيفانو دي بارتولوميو، طبيب التخدير بالمستشفى، إن هؤلاء المرضى لا يصدرون ضجيجا.
ويضع كل مريض منهم حقيبة صغيرة بها ممتلكاته الشخصية على الأرض أو يعلقها على سريره، ولا يسمح لأحد باستقبال الزائرين من أفراد العائلة.
ورغم أن الكثير من المصابين كانوا في حالة حرجة، إلا أن أيا منهم لم يشعر بخطورة حالته، وبعضهم لا يلاحظ أنه يجد صعوبة في التنفس.
لكن الأمر غير المعتاد حقا، هو أن الكثير من المرضى تتدهور حالتهم ولا يُنقلون إلى غرفة العناية المركزة، رغم احتياجهم لتلقي العلاج فيها. فعندما يتوافر سرير في غرفة العناية الفائقة، يقرر الطبيب أي المرضى أحق بالحصول عليه.
ويقول دي بارتولوميو إن الوضع كان صادما، إذ بلغ عدد الحالات في 13 مارس/آذار 1,100 حالة، وعجزت المستشفى عن استيعاب المرضى تماما.null
ويعمل دي بارتولوميو حاليا في جناح من المستشفى يضع للمرضى أجهزة دعم التنفس التي لا تحتاج لتدخل جراحي إلى حين توافر سرير في غرفة العناية الفائقة، حيث يُدخل الأطباء أنابيب عبر الفم إلى القصبة الهوائية.
لكنه يقول إن بعض المرضى لا يُنقلون إلى هذا الجناح بسبب كبر سنهم أو شدة مرضهم. وقد يكتفي الأطباء بإعطائهم الأكسجين.
قرارات قاسية
فرض وباء كورونا المستجد، الذي تخطى عدد المصابين به حول العالم حاجز ثلاثة ملايين الأسبوع الحالي، ضغوطا جسيمة على قطاع الرعاية الصحية. وامتلأت أسرّة المستشفيات في الدول التي اجتاحها الفيروس بالمصابين.
وتعاني بعض المستشفيات من نقص حاد في المعدات الأساسية كأجهزة التنفس الاصطناعي ومعدات الوقاية الشخصية وحتى أعضاء الفرق الطبية، مما أجبر الأطباء على إعطاء الأولوية في الرعاية الطبية لبعض المرضى على حساب غيرهم.
ولكن هل يمكن لأحد أن يقدم حياة شخص على آخر؟
نشر فريق من الأطباء والأكاديميين من مختلف بلدان العالم في مارس/آذار الماضي، مجموعة من المبادئ التوجيهية الأخلاقية في دورية “نيو إنجلاند” الطبية، بشأن كيفية ترشيد الموارد أثناء تفاقم وباء كورونا المستجد.
وحذر الفريق من تطبيق مبدأ الأسبقية في العلاج لمن يأتي أولا. وشددوا على أهمية إعطاء الأولوية للحالات الحرجة بين المرضى الأصغر سنا الذين يعانون من أمراض مزمنة أقل.
وبالمثل، نصت المبادئ التوجيهية التي يسترشد بها الأطباء الإيطاليون على وجوب إعطاء الأولوية للمرضى الذين تزيد فرص شفائهم بالعلاج. ووصفت المبادئ الوضع الحالي بأنه يشبه طب الكوارث،
وذكرت أنه قد يكون من الضروري وضع حد أقصى لعمر المريض الذي يسمح بنقله إلى غرفة العناية الفائقة.
ويقول إزيكيل إيمانويل، رئيس مجلس إدارة الأخلاقيات الطبية والسياسة الصحية بجامعة بنسلفانيا، إن المعيار الأساسي هو تعظيم الفوائد، من حيث عدد الأرواح التي سينقذها الأطباء وعدد السنوات التي سيعيشها المريض بعد التعافي.
ويرى واضعو هذه المبادئ أن فرص المرضى الأصغر سنا والأفضل صحة أعلى من فرص نظرائهم الأكبر سنا في البقاء على قيد الحياة. لكن ربما قد غاب عن هؤلاء أن فرص نجاة جميع المرضى ستتساوى على أجهزة التنفس الصناعي في حال تركهم دون رعاية،
فإذا رُفع جهاز التنفس الصناعي عن المريض الشاب لن تكون فرصه في البقاء على قيد الحياة أفضل من فرص المريض الهرم.
وشددت اللوائح التي نشرت في الدورية على إعطاء الأولوية في الحصول على المعدات الطبية والعلاج للأشخاص الذين يؤدون أدوارا محورية في مكافحة الوباء،
مثل من يعمل بالخطوط الأمامية، وغيرهم من الموظفين في المهن الضرورية لتسيير الدولة، بحجة أن وظائفهم تتطلب تدريبا شاقا ومن الصعب العثور على من يقوم مقامهم.
وذكر الفريق أن نزع جهاز التنفس الاصطناعي عن مريض أو إخلاء سرير في وحدة العناية المركزة وإعطاؤه لآخر في حاجة إليه هو أمر له مبرراته وينبغي إخبار المرضى بذلك قبل دخول المسشتفى.
مسائل أخلاقية
مما لا شك فيه أن هذه القرارات لا تتخذ إلا في حالة الضرورة القصوى، عندما تزداد الضغوط على المستشفيات وأنظمة الرعاية الصحية بسبب ارتفاع حالات الإصابة وشح الموارد.
لكن حرمان الفئات الأخرى، مثل كبار السن والمرضى الذين يعانون من أمراض مسبقة، من العلاج أو وضعهم في ذيل القائمة، يثير تساؤلات أخلاقية عدة، إذ أن هذه الفئات أكثر عرضة للإصابة لأنهم أقل قدرة على مراعاة التباعد الاجتماعي بسبب اعتمادهم الدائم على آخرين.
وقد ترتب على تفشي المرض في دور رعاية المسنين عواقب جسيمة، إذ كان ثلث الوفيات في إنجلترا وويلز جراء الإصابة بفيروس كورونا من نزلاء دور رعاية المسنين، بينما كان ربع ضحايا الفيروس في الولايات المتحدة من نزلاء دور المسنين.
وردا على ذلك، ذكر رؤساء عدة مؤسسات خيرية تهتم بشؤون المسنين في المملكة المتحدة في بيان مشترك أن العمر الزمني، كما هو معروف منذ سنوات طويلة، ليس مؤشرا يعتد به على الحالة الصحية أو القدرة على التعافي من المرض.
ولا ينبغي أن يستخدم احتياج الفرد للرعاية أو الدعم كذريعه لتبرير حرمانه من العلاج بالمستشفى.
المؤسسات الخيرية
وذكرت المؤسسات الخيرية المعنية بحقوق ذوي الإعاقة في خطاب مشترك مع الجمعية الطبية البريطانية أن فرص الفرد في الاستفادة من العلاج ينبغي ألا تتأثر بتقدير المجتمع لقيمته في الحياة.
واضطرت بعض الدول الأكثر تضررا من الوباء أن تطلب من الأطباء اتخاذ قرارات صعبة بإعطاء الأولوية لبعض المرضى في تلقي العلاج على حساب آخرين، لكن المعايير التي يبني عليها الأطباء قرارتهم اختلفت من بلد لآخر.
إذ تطبق بالفعل في بعض الولايات الأمريكية مبادئ توجيهية وضعت قبل الوباء حول الخطوات التي تتخذ في حالة عدم كفاية أجهزة التنفس الاصطناعي.
وتشير الوثائق إلى أن بعض الولايات تستبعد المرضى الذين يعانون من إعاقة عصبية أو خرف أو مرض نقص المناعة المكتسبة، من العلاج بأجهزة التنفسي الاصطناعي.
وتنص خطة ولاية ألاباما على أن المرضى الذين يعانون من تأخر عقلي حاد أو خرف متقدم أو إصابة الدماغ الشديدة قد يستبعدون من العلاج بأجهزة التنفس الاصطناعي.
وحذرت الجماعات المدافعة عن حقوق ذوي الإعاقة من أشكال التمييز القاتلة التي يواجهها ذوو الإعاقة أثناء الوباء.
وشدد نيل رومانو، رئيس المجلس الوطني لشؤون الإعاقة، على أهمية التزام كل ولاية عند الاستجابة لوباء كورونا المستجد بحماية الحقوق المدنية لسكانها من ذوي الإعاقة.
مبادئ توجيهية
وأصدر المعهد الوطني للصحة والرعاية المتميزة مبادئ توجيهية جديدة بشأن كيفية تقييم مدى أحقية المرضى فوق 65 عاما الذين لا يعانون من إعاقات طويلة الأمد في العلاج بأجهزة التنفس الصناعي،
بناء على مقياس للوهن بسبب التقدم في العمر، يطرح خلاله الطبيب على المريض أسئلة حول مدى اعتماده على الآخرين لمزاولة أنشطته اليومية.
وذكر أحد الأطباء بمستشفى لندن أن إحدى المريضات استبعدت من العلاج بأجهزة التنفس الاصطناعي بعد أن سألها الطبيب إلى أي مدى يمكنها السير دون أن تتوقف لتلتقط أنفاسها، وتبين أن المريضة كانت تجيب بناء على حالتها بعد الإصابة بمرض كورونا المستجد.
وأصدرت الجمعية الطبية البريطانية وثيقة بشأن المسائل الأخلاقية، تنص على أن أعضاء الفرق الطبية قد يضطرون لنزع الأجهزة عن بعض المرضى
وإعطائها لغيرهم الذين يرى الأطباء أن فرصهم أعلى في البقاء على قيد الحياة، حتى لو كان المريض الذي نُزعت منه الأجهزة قد كانت حالته مستقرة أو أظهر استجابة للعلاج.
المستشفيات
وتصدر المستشفيات وهيئات الرعاية الصحية حول العالم مبادئ توجيهية مماثلة لمساعدة أعضاء الفرق الطبية في اتخاذ القرارات الصعبة بشأن الأولوية في العلاج. ورغم أن هذه القواعد تهدف إلى إنقاذ أكبر عدد من الناس،
إلا أنها تؤثر على صحة الأشخاص الذين تقل فرصهم في الحصول على العلاج، وتفاقم مخاوفهم حول مصيرهم في حالة الإصابة بالمرض.
وأثيرت مخاوف أيضا بشأن الآثار النفسية التي تتركها هذه القرارات على أعضاء الفرق الطبية. إذ يجري الأطباء الذين يتخذون هذه القرارات محادثات جماعية يوميا ليدعم بعضهم بعضا.
ولا شك أن قرار تقديم العلاج لمرضى وحرمان آخرين منها هو أصعب قرار قد يتخذه أي طبيب في حياته العملية. ويقول دي بارتولوميو، إن بعض الأطباء حصلوا على إجازة مرضية لعجزهم عن مواجهة هذه القرارات.