ما من شيء تأباه الفطرة، وتعافه النفس، ويأنف منه أصحاب المروءات، إلا ووجدت القحاتة يحومون حوله، وهم ما بين التورط العميق، والتبرؤ الشكلي .يدفعهم إلى الأول تمسكهم بأساسيات مشروعهم، ويسحبهم إلى الثاني، على مضض، عيشهم في مجتمع يعلمون حكمه على المتورطين.وبالتالي يلجأون إليه أحياناً تنزيهاً للذات وصنعاً لمسافةٍ وهمية بينهم وبين تفضيلاتهم من الموبقات التي يحرمها الدين وتحرمها الوطنية .▪️ إضافة لما جاء في ذلك المقال من إثباتات لصحة المقدمة، يمكننا الحكم على مقولتين للناطق باسم قحت المركزي.ومقولة للدكتورة مريم الصادق وتأثير هذه المقولات على التسوية الجارية، لنرى كيف أن القحاطة يزاوجون بين التورط والتبرؤ.ويعجزون عن إيجاد منطقة وسطى تحقق حاجتهم التي لا يحققها التبرؤ الكامل والحاسم ، ولعل هذا هو أحد أهم أسباب قزامتهم، أي أنهم يفشلون في صناعة منطقة وسطى ضبابية تلائم مشروعهم.وحتى هذه إن توصلوا إليها فهي لا تثير الحماس ولا تخاطب الوجدان، بقدر ما تحتاج إلى الدفاع والشرح.ومزيد من الضبابية والنسبوية والتغبيش وتدوير الزوايا الذي يقتل الحماس ولا يجذب من المناصرين إلا أصحاب الاستعداد المسبق.وهؤلاء دائماً قلة، وحزب الأمة القومي، في نسخته القحطية، أصبح كأحزاب الفكة في هذه الناحية ، ولنا عودة أكثر تفصيلاً لهذه النقطة إن شاء الله ، توعَّد جعفر حسن المكون العسكري بقولته (حنباري السفارات دي سفارة سفارة)، وقد فعل ما قاله.والآن إذا قلت : إن جعفر حسن لم يجنِ من قولته هذه سوى الفضيحة، فسوف يثير قولك هذا غضب القحاطة.لأنهم لا يرون في قوله فضيحةً، ولأنهم لن يسلِّموا بأن خطته كانت فاشلة ! وإذا قلت إنه قد نجح في خطته، فلن يسلِّموا بذلك دون شرح.أولاً ليقين داخلي بأن الأمر لا يخلو من فضيحة، ثم لأنهم يعلمون أن قولك يتضمن معنى أن التسوية قد فُرِضت من الخارج.وقد أصبحت ثنائية بسبب تحكمات الخارج، وبسبب طبيعة مطالب زوار السفارات أثناء زيارتها.وبسبب تفضيل الخارج للأتباع المطيعين, وبسبب ما تتيحه هذه التبعية من فرصة للخارج لصياغة الدستور ورسم الاتفاقات ، وقال جعفر حسن ، تاني قصة انتو خونة، الكلام القديم دا، ياخي الكلام دا بقى ما بجيب حقو تاني، والقصة بقت على المفتوح، والناس مشت خطوات كبيرة ، والآن إذا قلت إن جعفر حسن لم يجنِ من قولته هذه سوى الفضيحة، سيعترض القحاتة على قولك.لأنهم أيضاً لا يرون في قوله فضيحةً .. وإذا قلت إن مجريات التسوية قد أثبتت أن جعفر حسن كان صادقاً وأميناً فيما قاله.سيتصدون لقولك، لعلمهم بأنه يعني أنهم قد تصرفوا فعلاً وكأن كلمة الخيانة قد أصبحت قديمة.ولم يحُل الخوف من التورط فيها بينهم وبين الاستجابة لأي إملاء خارجي، أو التورع عن أي طلب داخلي لإملاء خارجي.وأن أفعالهم – التي تصح فقط إذا كانت كلمة الخيانة قد خُذِفت من القاموس – قد أصبحت على المفتوح، وأنهم “مشوا فيها” خطوات كبيرة ، وقالت د. مريم الصادق قبل بداية التسوية الثنائية :(من المعلوم بالضرورة إنو حكام السودان الآن بيأخذوا آراءهم وتوجيهاتهم وتعليماتهم من جهات خارج السودان).والآن إذا قلت إن د. مريم كانت كاذبة في هذا القول، فسوف تجد اعتراضاً من القحاطة، لأنهم لا يقبلون بوصف أحاديث قادتهم بالكذب.ولأنهم لا يرغبون في الدفاع عن العسكريين. وإذا قلت إن صحة قولها قد ثبتت، فأيضاً سيعترضون !.لأنهم يعلمون أن الثبوت المعني هو ذلك الذي أكدته التسوية، وأن المقصود أنهم لا يمانعون في كل أنواع التدخلات الخارجية طالما كانت لصالحهم !.وأن المقصود أيضاً أنهم يعلمون أن تدخلات الخارج أصبحت تأخذ شكل (التوجيهات) بل (التعليمات).ويعلمون أن الخارج لا يضغط لاستبدال تابع بتابع إلا إذا ضمن أن الأخير، المستفيد من الضغوط، أكثر تبعيةً .