شكلت الأزمة الأوكرانية فرصة نادرة لأنظمة الحكم العربية لتصفية بعض حساباتها مع الإدارة الأمريكية. «الانتقام» الناعم تجسَّد في امتناع دول الشرق الأوسط، والعربية منها، عن إبداء دعم علني لإدارة بايدن في الأزمة. قد يبدو الأمر سطحيا وغير ذي تأثير، لكنه حتما موقف لافت يقلل من الدعم الدولي لواشنطن المحتشم والمتضائل أصلا حتى بين أقرب حلفائها.
واشنطن، رأس الحربة في هذا الصراع، في حاجة إلى أيّ دعم حتى لو كان معنويا فقط ومن أي دولة في العالم. مهمةٌ جدا قائمتا الـ»مع» والـضد» في مثل هذه الصراعات الاستراتيجية.
الموقف العربي حتى الآن يتمثل في مسافة أمان من معسكري الأزمة. ليس هناك دعم صريح للغرب ولا إدانة واضحة لروسيا. أكبر حلفاء الولايات المتحدة العرب اختاروا الصمت، حالهم حال أكبر حلفاء روسيا.
الوجه الآخر لهذا الموقف المتحفظ هو رغبة واضحة في تفادي فتح جبهة خلاف مع روسيا. في منطقة الشرق الأوسط الواسعة، بما فيها تركيا وإسرائيل وإيران، يبدو الموقف متناغما حتى من دون تنسيق مقصود ورغم الخلافات العميقة بين الدول.
السعودية ليست على ودّ كبير مع الإدارة الأمريكية الحالية لأسباب عدّة، منها تراجع حماسها في دعم الرياض في حرب اليمن. هناك أيضا سبب أقرب إلى الشخصي: اندفاع الرئيس بايدن في أيامه الأولى إلى انتقاد ولي العهد محمد بن سلمان بسبب قضية جمال خاشقجي، دفع بالحاكم الفعلي للسعودية إلى اتخاذ موقف متشدد من بايدن ومساعديه. مارتن إنديك، مبعوث واشطن السابق للشرق الأوسط رجّح في مقال بمجلة «فورِن أفيرز» أن بن سلمان مستاء وينتظر أن تبادر واشنطن بإصلاح الخلل في العلاقة. هذا لا يعني قطيعة بين الطرفين ولا يعني نهاية التعاون المتعدد الأوجه بينهما. يعني فقط أن الأمور أقل دفئا مما كانت عليه مع بوش أو ترامب.
مصر كذلك لا تشعر بالاطمئنان للإدارة الأمريكية بسبب موضوع حقوق الإنسان الذي يشهره المشرّعون الأمريكيون وكبار مسؤولي البيت الأبيض باستمرار في وجه أركان نظام السيسي. «تبعية» الدبلوماسية المصرية لنظيرتها السعودية تجعلهما على وفاق في الموقف من الأزمة الأوكرانية.
الإمارات لن تغفر لإدارة بايدن تراجعها عن الدعم السخي الذي كانت (أبوظبي) تتلقاه من إدارة دونالد ترامب. تراجع بايدن تجسد في ضغط مستتر لوقف حرب اليمن، وسحب الحوثيين من قوائم الإرهاب، إضافة إلى إبطاء بعض فصول التعاون العسكري مثل صفقة مقاتلات «إف35» المتطورة.
إذا ما اشتدت الأزمة وتوقف تصدير القمح من أوكرانيا وروسيا، فدول عربية عديدة ستكون من أول المتضررين. وحتما لا يخفى على الحكام العرب أن الخبز كفيل بإشعال ثورات اجتماعية أخطر من ثورات الحرية
الكويت فضلت الاستمرار في وفائها لتقاليد دبلوماسية مبنية على الحياد والاتزان في الأزمات الكبرى. وزير الخارجية الكويتي، أحمد ناصر الصباح، وخلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره الأمريكي عقب انتهاء اجتماعات الحوار الاستراتيجي في واشنطن أواخر الشهر الماضي، فضَّل تفادي التجاوب مع أنتوني بلينكن عندما تطرق الأمريكي للأزمة الأوكرانية متهما روسيا بمحاولة الاعتداء على جارتها.
الأردن منزعج من الشيك الأمريكي المفتوح لإسرائيل الذي لا يراعي الوضع الأردني الحرج عندما يتعلق الأنر بالقضية الفلسطينية، ما يسبب إحراجا مستمرا لعمان أمام الرأي العام المحلي وأمام الفلسطينيين. وأقل ما يمكن أن ترد به الأردن الامتناع عن مجاراة واشنطن في تصعيدها مع روسيا.
إسرائيل تشعر بطعنة من الإدارة الأمريكية بسبب إصرارها على التفاوض مع إيران حول إحياء الاتفاق النووي القديم أو توقيع آخر جديد. بالنسبة لإسرائيل، يكفي التفاوض مع إيران على برنامجها النووي لمحو فضل الدعم العسكري والدبلوماسي والاستراتيجي اللامحدود الذي قدمته لها إدارة بايدن وستقدمه.
تركيا تبني علاقاتها الثنائية مع الولايات المتحدة على الحذر، وتمتلك أكثر من سبب للحذر بغض النظر عمَّن يقود البيت الأبيض. هناك ملفات خلافية شائكة بين الطرفين تبدأ من سوريا وتنتهي في بنسلفانيا حيث يقيم رجل الدين المطلوب من أنقرة فتح الله غولن.
علاوة على الأسباب الثنائية والمتعلقة بتفاصيل علاقة كل دولة بالبيت الأبيض، هناك رغبة لدى دول الشرق في تفادي مواجهة مع روسيا الحاضرة بقوة في المنطقة، وحاجة للعمل معها في أكثر من أزمة وبلد.
ليس من مصلحة الشرق الأوسط، كفضاء وكدول منفردة، معاداة روسيا. بعض الأمثلة: السعودية تحتاج إلى روسيا في موضوع النفط والشراكة في «أوبك+». إسرائيل تحتاج لتواطؤ روسيا عندما تريد شنّ عمليات في سوريا وما أكثر عملياتها هناك! مصر تحتاج لروسيا في ليبيا. الجزائر تحتاج روسيا في مالي. تركيا تحتاج لروسيا في سوريا وليبيا وثنائيا (ورغم ذلك لم تحاول إخفاء دعمها الدبلوماسي والعسكري لأوكرانيا).
نجاح روسيا في فرض نفسها على خارطة العالم في السنوات العشر الماضية جعل منها لاعبا صعبا. بعيدا عن العلاقات الدبلوماسية والحسابات الاستراتيجية، هناك قضية لا تقل أهمية يحسب العرب حسابها: التبعية الغذائية. العديد من الدول العربية، خصوصا المجتمعات ذات التعداد السكاني العالي وهي ذاتها القائمة عاداتها الغذائية على الخبز وليس الأرز، تعتمد حصريا على واردات القمح الروسي أو الأوكراني بأنواعه.
مصر تستورد نحو 12.5 مليون طن سنويا أغلبه من أوكرانيا. الجزائر تستورد حوالي 7 ملايين طن أغلبها من روسيا منذ وقت قريب. المغرب يستورد ما لا يقل عن 4 ملايين طن نسبة معتبرة منها مصدرها أوكرانيا. تونس تستورد أكثر قليلا من مليوني طن. مع العلم أن مخزونات الحبوب في الدول العربية تقاس بشهور قليلة وأحيانا بأسابيع فقط.
إذا ما اشتدت الأزمة وتوقف تصدير القمح من أوكرانيا وروسيا، فدول عربية عديدة ستكون من أول المتضررين. وحتما لا يخفى على الحكام العرب أن الخبز كفيل بإشعال ثورات اجتماعية أخطر من ثورات الحرية.
توفيق