مصر تترقب.. هل انتهى شهر العسل بين السودان وإثيوبيا إلى الأبد ؟


يقف كل من السودان وإثيوبيا على حافة انهيار سياسي، وباتا على مفترق طرق على خلفية أزمات متعددة ومتشابكة. فلم تنزع الهدنة المستمرة في إقليم “تيغراي” منذ ثلاثة أشهر فتيل الحرب الأهلية المستمرة في إثيوبيا بين الحكومة المركزية وجبهة تحرير تيغراي، وهي الحرب المستمرة منذ أن أعلن رئيس الوزراء “آبي أحمد” حملته العسكرية على الإقليم. ومن جهة أخرى، لم تفلح جهود الأمم المتحدة ولا الاتحاد الإفريقي في إعادة السودان إلى الحكم المدني وإصلاح الشراكة الهشَّة بين المدنيين والعسكريين، التي توتَّرت بعد انقلاب الجيش في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي. ورغم دعوة الجيش للتفاوض وموافقته على إعادة الحكم للمكوِّن المدني، فإن القوى المغلوبة على أمرها رفضت، حيث لم تعد تثق أن بإمكانها ضمان مكانتها في العملية السياسية التي يتحكم بها الجيش.

لم تقف المشكلة عند ذلك الحد في تعقُّد أزمات الشأن الداخلي بالبلدين الأثقل وزنا بعد مصر في حوض النيل، إذ يواجه القُطران اليوم أزمة أخرى نتيجة ضعف سيطرة حكومتيهما على الحدود، وانتشار الحركات المسلحة، وتنامي الحروب القبلية في الأطراف البعيدة المترامية، وتأزُّم الوضع الاقتصادي.

وما بين نيران السلاح وتعقيدات السياسة الداخلية، تتورط الخرطوم وأديس أبابا في عدة حلقات تزيد هوَّة الصراع بينهما؛ بسبب تغييرات طرأت على علاقة البلدين في ظل تحركات سياسية متناقضة، واختلافات في وجهات النظر حيال عدة قضايا مصيرية، أهمها سد النهضة الذي تنظر إليه مصر والسودان على أنه يجعلهما تحت رحمة إثيوبيا، واتهام آبي أحمد الخرطوم بالتواطؤ في دعم متمردي تيغراي، ومن ثم رفضه الوساطة التي عرضتها البلاد في الأزمة، وهو ما اعتبره السودان إهانة له، لا سيَّما أنه تكبَّد خسارة اقتصادية من تبعات الحرب نتيجة توقُّف التجارة وعبء اللاجئين المتدفقين نحو السودان.

“الفشقة”.. التاريخ والأرض بين السودان وإثيوبيا

يشهد السودان وإثيوبيا في الوقت نفسه من كل عام تصاعد التوترات الحدودية، مع بداية موسم الحصاد في الأراضي الخصبة بمنطقة الفشقة المتنازع عليها بين البلدين، وهي منطقة تبلغ مساحتها نحو مليوني فدان، وتمتد سهولها على مسافة 168 كيلومترا مفسحة الطريق بعدها للجبال الإثيوبية، وهي تضم أراضي زراعية شديدة الخصوبة، ويقطنها بعض المزارعين الإثيوبيين إلى جانب السودانيين رغم أنها تقع داخل السودان. وتحتج السودان بالحدود التي وضعها البريطانيون عام 1902 سندا لها في أحقيتها بتلك الأراضي، في حين ماطلت إثيوبيا في الاعتراف رسميا بتلك الحدود، مُعلِّلة موقفها بأن الحدود جزء من إرث الاستعمار البريطاني الذي حاول تحجيم نفوذ الإمبراطورية الإثيوبية لصالح مصر والسودان الواقعتين تحت سيطرته آنذاك. وقد توصَّل الطرفان خلال السبعينيات إلى بعض التفاهمات مع تشكيل لجنة عام 1974 لترسيم الحدود، بيد أن اللجنة لم تفلح في مهمتها، وسرعان ما بدأت إثيوبيا بدعم توغُّل المزارعين الإثيوبيين واستيطانهم المنطقة، حتى ارتفع عددهم من حوالي 50 إلى أكثر من 1600 شخص.

في وقت لاحق، نجحت العلاقات الجيدة بين الخرطوم وأديس أبابا عام 1995 -حين حكمت إثيوبيا جبهة تحرير التيغراي- في الوصول إلى تفاهمات أفضت إلى قبول إثيوبيا بحدود 1902 مقابل موافقة السودان على بقاء المزارعين الإثيوبيين في الفشقة(1). بيد أن الفشقة عادت إلى بؤرة الضوء من جديد مع خروج جبهة تحرير تيغراي من السلطة وصعود آبي أحمد، بل وتحوُّل الجبهة إلى غريم عسكري للنظام الحاكم في أديس أبابا؛ ما نجم عنه رغبة لدى سياسيي الطبقة الحاكمة الجديدة في إعادة النظر فيما وافقت عليه الحكومة في التسعينيات، وإعادة المطالبة بأحقية إثيوبيا في الفشقة. منذ ذلك الوقت والميليشيات المدعومة من أديس أبابا تتوغَّل داخل الفشقة وتمارس انتهاكات ضد القوات السودانية هناك.

وقعت آخر حلقات هذا التصعيد مؤخرا حين اتهم السودان الجيش الإثيوبي بخطف وإعدام سبعة جنود سودانيين ومدني واحد كانوا أسرى لديه، إذ قالت الخرطوم إنهم اقتيدوا إلى الأراضي الإثيوبية وقُتِلوا هناك، وهو ما نفته إثيوبيا قائلة إن الفاعل هي ميليشيا محلية خارجة عن سيطرة الحكومة المركزية، وهي عينُها الميليشيات التي تقول الخرطوم إنها لا تتحرَّك إلا بأوامر أديس أبابا. وبينما استدعت الخرطوم سفيرها لدى أديس أبابا للتشاور في أعقاب الحادث، أطلق الجيش السوداني نيران مدفعيته الثقيلة مع قصف جوي مستمر، أعاد بموجبه سيطرته على منطقة “جبل قلعة اللبن”، ودمَّر قاعدة عسكرية هناك، كما أجلى المزارعين الإثيوبيين، وأجبرهم على التراجع إلى حدود بلادهم. هذا وسبق أن اشتبك الجيشان السوداني والإثيوبي قبل عامين بسبب سحب ميليشيا إثيوبية المياه من نهر عطبرة، وزراعة أراضٍ سودانية دون موافقة الخرطوم.

تعززَّت التوترات في تلك المنطقة الحدودية نتيجة عدة اعتبارات شهدتها أديس أبابا عقب الصراع الذي شنه آبي أحمد على إقليم تيغراي، ضمن حلقة من حلقات تصفية خصومه القدامى الذين هيمنوا على الحكم والسلطة في إثيوبيا لثلاثة عقود سابقة، واستبدالهم لصالح أبناء عرقية الأورومو التي ينحدر هو منها بالتحالف كذلك مع عرقية الأمهرة. بيد أن تداعيات الحرب أثرت على السودان الذي بات ملاذا لأكثر من 67 ألف لاجئ إثيوبي فرُّوا من تيغراي، واستوطنوا مدن الشرق والجنوب. ومما فاقم الأمور أكثر في ظل الأوضاع الهشَّة على الجانبين، فَشَل محاولة الصلح التي بادرت بها الخرطوم، وقابلها آبي أحمد بشيء من الجفاء المُعلَن، إذ أعلن الرجل رفضه بطريقة حملت إهانة للنظام السوداني، ومن ثم تدهورت العلاقات أكثر على المستوى الرسمي بعد اتهامات من الحكومة الإثيوبية لجارتها الشمالية بدعم مقاتلي التيغراي.

تعززَّت التوترات في المنطقة الحدودية نتيجة عدة اعتبارات شهدتها أديس أبابا عقب الصراع الذي شنه آبي أحمد على إقليم تيغراي، ضمن حلقة من حلقات تصفية خصومه القدامى.
على الجانب المقابل، يعتقد المسؤولون في السودان أن أديس أبابا تدعم من باب خفي الميليشيا الإثيوبية التي تهاجم المزارعين في كل موسم حصاد، وما يعزز تلك الفرضية هو أن الميليشا تتبع قومية الأمهرة، أهم حلفاء آبى أحمد في حربه الجارية ضد التيغراي. ومن ثم، لا يبدو أن رئيس الوزراء الإثيوبي يملك فعليا القدرة على الوصول إلى تفاهم بخصوص القضايا الحدودية نتيجة حرصه على الظهير السياسي الذي يسانده في البقاء على رأس السلطة بعد انتخابات صعبة شهدها حزبه العام الماضي. علاوة على ذلك، تتمسَّك قومية الأمهرة بالفشقة لاعتبارات تاريخية تتمثَّل في ادعائهم بوجودهم فيها منذ عشرات السنين، إلى جانب أنها مصدر لثراء النخب التي نجحت بفعل الهجمات المتكررة في إفراغ تلك المنطقة من السودانيين والاستفادة من أراضيها الزراعية وتصدير محاصيلها.

العسكريون في السودان وآبي أحمد.. مصالح متضاربة
مثَّلت التظاهرات التي اقتلعت نظام البشير عام 2019 مفاجأة مدوية في محيطه العربي، ليس فقط لأن خصوم الربيع العربي إقليميا لم يكونوا مستعدين ولا راغبين في موجة انتفاضات عربية جديدة، بل وكذلك لعدة اعتبارات بعيدة المدى بالنسبة لدول الخليج، التي لم تكن راغبة في وصول المعارضة إلى كرسي الحكم في السودان، بسبب المخاوف من ميل كفة الحرب في اليمن لصالح الحوثيين. كان البشير حليفا جيدا للمصالح الخليجية في اليمن، ودخل في تحالف مع مصر والسعودية لمنع الدول التي سعت لإيجاد موطئ قدم لها في البحر الأحمر، في إشارة صريحة ومعلنة إلى إيران. وكان مما اعتبرته الرياض والقاهرة معا من سلبيات الانتفاضة السودانية أن القوى السياسية المُحرِّكة لها تبنّت موقفا متحفِّظا من السعودية ومصر؛ ما جعل المحيط العربي متوجِّسا من البديل القادم في الخرطوم.

نتيجة لتلك الاعتبارات، دعمت مصر عمر البشير دعما واضحا، حيث استُقبل في القاهرة في خضم الاحتجاجات رغم التوترات التاريخية المعروفة بين النظام المصري السابق بقيادة حسني مبارك والسوداني بقيادة البشير، كما حاولت القاهرة تطويع الاتحاد الإفريقي تحت رئاستها في تلك الفترة لخدمة مصالحها الإقليمية ودعم المجلس العسكري في صراعه على السلطة طيلة أشهر. وقد أفضت تلك السياسة إلى إفشال الوساطة المصرية الأولى، مع رفض الكيانات السياسية المدنية المؤثرة قبول أي دور مصري، وهو ما تزامنت معه تحرُّكات إثيوبية سعت سعيا غير مباشر لصعود حكومة مدنية، وإقصاء العسكريين قدر الإمكان؛ لضمان تأييد السلطة الجديدة لأديس أبابا في القضايا الإقليمية، والاصطفاف معها ضد أي أزمات مع دول الجوار، وبخاصة مصر، وهي سياسة غلَّفتها إثيوبيا بغلاف دعم الديمقراطية والحكم المدني في السودان، لا سيَّما أن آبي أحمد الواصل لتوِّه إلى السلطة تمتَّع آنذاك بصورة الحاكم المدني الشاب الذي عزَّز الديمقراطية في بلاده.

أمام المبادرة المصرية التي دعمها المكوِّن العسكري ورفضتها القوى المدنية، طرحت أديس أبابا مبادرة مضادة حملت تأييدا ضمنيا للمكون المدني، ورفضها قادة الجيش السوداني علانية، وتضمنت في بنودها تشكيل ثلاثة هياكل للحُكم؛ هي مجلس سيادي يضم عسكريين ومدنيين، ومجلس تشريعي تكون فيه لقوى الحرية (مدنية) أغلبية الثلثين، ومجلس وزراء بصلاحيات كاملة، مع بدء فترة انتقالية، فترة تكون رئاستها مناصفة بين العسكر والمدنيين، على ألا يترشح قادة المجلس العسكري في المجلس السيادي للانتخابات الرئاسية. وبينما سرت معركة تكسير العظام بين المدنيين والعسكريين، سعى المكون العسكري إلى تمرير مبادرة “جوبا” المدعومة من القاهرة، لكنّ رَفْض المكون المدني لها أجهض المبادرة، التي حلَّت بديلا عنها الوثيقة الدستورية المُعدلة للخروج من الأزمة السياسية في الخرطوم برعاية أديس أبابا.

حصدت إثيوبيا من وساطتها مكاسب سياسية سريعة، فإلى جانب الاحتفاء الدولي والإقليمي الذي قوبل به آبي أحمد، وجدت أديس أبابا بعد صعود عبد الله حمدوك إلى رئاسة الحكومة فرصة لتعزيز علاقتها بالسودان ما بعد البشير، والاعتماد على الصداقة التي جمعت رئيسَي الحكومتين، كي تضمن تأييد الخرطوم لإثيوبيا حال نشبت خلافات إقليمية. وقد عكس الموقف من سد النهضة العلاقة المضطربة التي جمعت عسكريي السودان بآبي أحمد، حيث دعمت الحكومة السودانية في البداية موقف أديس أبابا؛ ما دفع القاهرة إلى طلب التدخُّل من حلفائها في الأزمة لتحييد السودان على أقل تقدير، حتى استجاب قادة المجلس العسكري وأعلنوا التزامهم الوقوف إلى جانب مصر. وعقب الحركة الانقلابية الأخيرة للعسكريين في السودان، التي نأت مصر بنفسها عن دعمها صراحة، تضاءلت فرص إثيوبيا في حشد السودان مُجددا إلى صفها في ظل سيطرة العسكريين.

طريق أديس أبابا الوعر

ألقى آبي أحمد بكل ثقله السياسي للفوز بمبادرة توافقية لاختراق الأزمة السودانية، ومحاولة جمع كل الأطراف؛ لتعزيز علاقاتها مع النظام الجديد من جهة، وضمان مصالحها الإقليمية من جهة أخرى.
مثلما كانت للثورة السودانية أصداء واعتبارات في الشمال والشرق العربي، كانت أيضا لها حساباتها الأخرى عند النظام الإثيوبي الذي دفع بكل ثقله لتجميد عضوية الخرطوم في الاتحاد الإفريقي عقب مماطلة المجلس العسكري بدعم القاهرة في تسليم السلطة للمدنيين. وقد دافعت أديس أبابا عن موقفها قائلة إنه من حقها ضمان أمن السودان واستقراره، ومن ثم ألقى آبي أحمد بكل ثقله السياسي للفوز بمبادرة توافقية لاختراق الأزمة السودانية، ومحاولة جمع كل الأطراف؛ لتعزيز علاقاتها مع النظام الجديد من جهة، وضمان مصالحها الإقليمية من جهة أخرى، لا سيَّما أن مشروعه القومي يعني مواجهة حتمية مع القاهرة في حوض النيل.

انطلاقا من المبدأ ذاته، ترى النخبة المدنية أن مصلحتها تقتضي إحداث تقارب سياسي مع الجار الجنوبي، بسبب تقاطع ذلك مع أهداف المكون المدني الراغب في خلق مركز ثقل إقليمي مؤيد له يوازن علاقة العسكريين بمصر، ولكن مع انشغال إثيوبيا اليوم بمعاركها الخاصة، وتوتر علاقاتها مع الجيش السوداني المُحكم قبضته على السلطة، يبدو أن طريقة أديس أبابا للعودة إلى المشهد الإثيوبي لم يعد مفروشا بالورود.

بات السودان في ظل حكم العسكريين أكثر انحيازا للموقف المصري في قضية سد النهضة، كما غابت كل التصريحات التي حملت صيغة متوازنة مع إثيوبيا. ورغم أنه من المبكر القول إن العلاقات بين الخرطوم وأديس أبابا في اتجاهها إلى قطيعة لا رجعة فيها، من الآمن أن نقول إن القاهرة تجد نفسها مستفيدة من تصاعد الصراع بين دولتين لطالما مثّل تفاهمهما خطرا كبيرا على المصالح المصرية في الجنوب.

المصدر الراكوبة