أخبار ساخنةأهم الأخبارالأزمة السودانيةالسياسية العربيةالوطن العربي والعالممقالات الرأي

من مجرد أداة إلى منتج حقيقي كيف الطريق لإرتقاء الفرد السوداني؟

الكاتب : عماد الدين ميرغني

إحدى أكثر الأسباب التي ساهمت في نجاح الثورة السودانية هي التكنولوجيا، المتمثلةً في تطور وسائل الإتصالات والتي وصلت إلى مرحلة الهواتف الذكية والتي باتت متوفرة لدى كم كبير جداً من أفراد الشعب السوداني.

فسرعة تناقل الأخبار عبر الفيديوهات المباشرة وعبر المنشورات؛ ساهمت في ربط الشعب من شماله إلى جنوبه للإنتفاض ككتلة واحدة في وجه حكومة العهد البائد.

لكن، على جانبٍ آخر؛ فإن هذه التكنولوجيا نفسها التي يفترض أن تكون قد خلقت تراكماً كبيراً، من شأنها أن تضيء جوانب أخرى يغفلها الكثيرين، فسبل البحث والمطالعة باتت سهلة ومتوفر، وبلمسة تحصل على ما تريد، فيبدو الأبعد منك أقرب ما يكون.

وهذه حقيقة لا تظهر واضحة وجلية أمام مرأى الجميع في داخل هذه الدولة فحسب، وإنما على مستوى العالم ككل.

ولكن وبغض النظر عن تتابع الأحداث وسرعة وتيرتها، فإن الكشف الذي ساهمت فيه هذه التكنولوجيا، أضاءت لنا لمعرفة ما كان مدسوساً وكشفت لنا ما لم نكن لنراه لولا تقنية الهواتف الذكية.

ارتفاع أصوات

هذا الأمر خلق جرأة كبيرة جداً في تناول الكثير من المشاكل التي تواجهنا كمجتمع؛ باعتبار أن الصوت الجريء الواحد الذي كان يطرح هذه المشاكل مؤثراً بدرجة كبيرة على الكثير من الناس ليسلكوا مسلكه.

فكان من الطبيعي أن تتزايد وتيرة إرتفاع أصوات تتحدث عن قضايا ربما تكون على درجة كبيرة من الحساسية مع طبيعة المجتمع.

 أحدها قضية بارون الشهيرة، والشبيهة بقضية مريم، وهاتين القضيتين درجتا تحت تهمة الردة. لكن ليست القضية هنا، لكن القضية في كيفية تحديد الأولويات في الطرح في هذه الدولة التي تحتاج إلى إعادة تأسيس.

من هو المفكر السوداني الذي وضع في طرحه حقيقة إعادة التأسيس:

“إنتو أمام دولة عايزة إعادة تأسيس، ختوها كحقيقة واضحة ونفكر بموجبها”. هذه العبارة قالها المفكر محمد أبو القاسم حاج حمد (رحمة الله عليه) قبل 16 عام من الآن.

في ندوة أقامها في أبوظبي، وهي عصارة المجهود الكبير الذي قام به في مؤلفه “السودان، المأزق التاريخي وآفاق المستقبل” الذي من المفترض أن يجب تسليط الضوء عليه في الوقت الحالي في ظل التغييرات التي تحدث في مختلف المستويات.

والحقيقة أنه لولا التكنولوجيا لما عرف الكثير مننا هذا المفكر وعن أطروحاته، خصوصاً أنه طرح العديد من المشكلات التي تواجه الدولة في الوقت الحالي قبل 16 عام من الآن!!.

الكثير من المشاكل الإجتماعية والسياسية طرحها المفكر في مؤلفه الجبار عن السودان، وفي أوراق أخرى، بالتأكيد سنتطرق إليها في مقبل الأيام.

 لكن الأهم وبيت القصيد في هذه الأسطر ليست عن المؤلف ولا عن المفكر، وإنما قضية أخرى ضمن ما طرحه المفكر في مؤلفه وتحدث عنه في تلك الندوة.

أدوات للمستعمر

لقد تحلى بجرأة كبيرة في فكرته ولم يتردد في قولها صراحةً ومصادمةً للواقع السوداني، عندما قال بأن كل الفئات التي تعلّمت في السودان تعلمت كأدوات للمستعمر، وأنجبت فئات تعلّمت كأدوات. هذا هو المنطلق الرئيسي الذي يشرح أهم ما تعانيه هذه الدولة.

نعلم تماماً، أنه في هذه الدولة؛ الكثير من البقاع الجغرافيا لم تنل حظها في التعليم؛ أحد الحقوق الأساسية التي غابت عنهم تماماً، فهي بالكاد تريد أن تنال حق الحياة.

 ولكن حتى من نالوا حقهم في التعليم على مدار حقبة الدولة السودانية الحديثة (التي وصل عمرها حتى الآن 64 عاماً، أي منذ الإستقلال وحتى الآن) لم يتعلم غالبيتهم لأجل أن يكونوا منتجين، وإنما الحقيقة تعليمهم كان لغرض أن يكونوا مجرد تنفيذيين أكثر من أن يكونوا منتجين، وهنا تكمن الأزمة.

تكمن الأزمة في الأنظمة التعليمية التي اتجهت لتجهيز الكادر الذي يشغل وظيفة تسييرية وتنفيذية، غاب دور تجهيز المنتجين بالإبتكار والتنظير بالشكل الحقيقي الذي يؤدي بالتقدم لواقع الدولة السودانية.

لمن تمنح الوظائف

فالوظائف التي كانت تمنح الأفضلية الإجتماعية في زمن المستعمر؛ لم تكن أكثر من وظائف تنفيذية تحت إدارة المستعمر، كالمساعد في الحقل الطبي، والفني في الحقل الهندسي والصناعي، والباشكاتب في بعض المؤسسات المدنية.

 وهي التي تطورت لاحقاً لتلك المجالات التقنية البحتة مثل الطب والهندسة والمحاسبة والتقنيات المتقدمة مثل الحاسوب وتقنية المعلومات، وباتت للأسف هي عُقدة الوجاهة الإجتماعية.

تفاقم الخلل عندما ظل نموذج التعليم هو نموذج واحد دونما أي تغيير حقيقي مدروس. فالواضح أنه في السابق كانت قمة التقديم في تعليم الفرد في كيفية التنفيذ ما توجهه له الإدارة المستعمرة في ذلك الوقت.

وظل تسخير كل المناهج التعليمية حول نقطة الوصول بالفرد إلى كيفية التنفيذ، حتى ملكة الإبتكار التي من الممكن أن تجدها في المهندس.

 لا تخرج من كونها إبتكار حلول لمشكلات أو لتصميم فكرة أو حل مشكلة لنظام موجود، وليس لابتكار نظام جديد أو صناعة شيء جديد يقدم تغييراً ملموساً يخدم البشرية.

فلسفة التعليم

والمعضلة تكمن في نواة المشكلة، وهي فلسفة التعليم (إن صح التعبير)، وهي مشكلة أكبر من أن تكون مجرد مشكلة تتعلق بالمناهج التعليمية كما تحدث عنها الدكتور عمر القراي باستفاضة في عدد من المؤتمرات الصحفية وفي بعض المقابلات مع بعض وسائل الإعلام.

قد يكون الدكتور عمر القراي قد ناقش مشكلة حالية تحتاج إلى حل فوري في إطار تعديل المناهج. لكن المعضلة الكبرى تحتاج لبذل مجهود أكبر ولوقت أطول للعمل بشكل حقيقي على إجراء التغيير الملموس.

فلسفة التعليم هي التي من المفترض أن تحدد ماهية المشكلة لدى الفرد السوداني، والتي لن تخرج عن مشكلة عقلية وطرائق تفكير، وهي من شأنها أن تضع الطرائق والآليات والمناهج التعليمية التي تُنمّي عقل الفرد السوداني إلى ذلك العقل الجبار المبتكر والمخترع والمبدع في مختلف المجالات.

المشكلة

هذه هي مشكلة تواجه هذه الدولة في طريق نموها وتقدمها في المستقبل على مدار السنوات القادمة.

وهي واحدة من مشاكل متعددة ومعقدة، تتداخل بين بعضها البعض؛ وهي على الأغلب مشاكل تتعلق بالمجتمع وثقافاته وعاداته وتقاليده واعتقاداته، والتي قد تقف عائقاً في التقدم على مستوى الفرد، والذي بالضرورة هو عائق لدولة كاملة حكومةً وشعباً.

والحقيقة تكمن في أن الخلل الذي أوقعنا جميعاً في هذه الأزمة؛ هو الخلل وعدم التوازن في المجالات التخصصية في فضاءات العمل في مختلف القطاعات.

فالتقدم الذي تحرزه المجالات التقنية والعلمية مثل الهندسة والطب وتقانة المعلومات على حساب المجالات الأخرى المهمشة، لم تخدم الدولة بالشكل الكبير في طريق التقدم.

والحقيقة أننا في حوجة ماسة لفتح الأبواب لمجالات ما تُسمى بالعلوم الإنسانية، وهي تلك العلوم التي تخضع للتغيير بُناءً على الواقع ومتغيراته ولا تعتمد على الأغلب على الأرقام والمعادلات بالشكل الكبير، مثل الإدارة والإقتصاد والعلوم السياسية وعلم النفس؛ ومختلف مجالات علم الإجتماع.

دور الباحث والمنظر

هذه العلوم لابد لها من الوجود بقوة في مختلف المؤسسات؛ التابعة للدولة منها والتابعة لقطاعات أخرى، ووجودها الطاغي لابد أن يظهر، ليس على المستوى التنفيذي فحسب، بل على مستوى التنظير وهو الجانب الأهم.

فالباحث والمنظر في المجال الإقتصادي؛ من شأنه أن يحدد خارطة الطريق لنشاطات السوق المختلفة، وخارطة الطريق للمختلف المشاريع الهندسية منها والصناعية.

والباحث والمنظر في مجال علم النفس بجانب الباحث والمنظر في علم الإجتماع من شأنه أن يرسم خارطة الطريق لموظفي مجال التربية والتعليم؛ لوضع الآليات والمناهج العلمية المطلوبة.

وهنا تظهر أهمية التنظير في مجال التعليم في هذه الدولة لوضع اللبنة الأساسية لنظام تعليمي متطور ومتكامل يؤدي إلى الإرتقاء بعقلية الفرد إلى العقلية المنتجة بالشكل الحقيقي المساهم في تقديم دوره الفعّال في الدولة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons