في عام 1973، سطا جان إيريك أولسون على بنك “كريديت بانكن” (Kreditbanken)، أحد أكبر البنوك في العاصمة السويدية ستوكهولم، واتخذ 4 موظفين بالبنك رهائن، وطلب من الشرطة فدية قيمتها 700 ألف دولار وسيارة وإطلاق سراح صديقه من السجن لمساعدته.
احتجز أولسون وصديقه الرهائن لمدة 6 أيام في إحدى الغرف المحصنة بالبنك، والعجيب أن الرهائن بعدما حررتهم الشرطة من أيدي الخاطفين، رفضوا الإدلاء بشهادتهم ضدهما في المحكمة، والأغرب أنهم شرعوا في جمع الأموال للدفاع عنهما.
وذكرت إحدى الرهائن في مكالمة هاتفية مع رئيس الوزراء السويدي آنذاك أولوف بالمه، أنها تثق ثقة تامة في الخاطفين ولكنها تخشى من أن تموت في حال اقتحمت الشرطة المبنى.
لجأت شرطة ستوكهولم إلى الطبيب النفسي نيلس بيجيروت الباحث في علم الجريمة، لتحليل رد فعل الرهائن المحير تجاه خاطفيهم. وصاغ بيجيروت مصطلح “متلازمة ستوكهولم” (Stockholm Syndrome) لتفسير فكرة التلاعب بعقول الرهائن أو الضحايا أو بالأحرى “غسل أدمغتهم”.
يبدو أن رئيس البعثة الأممية فولكر بيرتس والمجتمع الدولي أصيبا بمتلازمة ستوكهولم في اطار تعاملهما مع قادة الانقلاب في السودان فبدلاً من أن يضغط فولكر والمجتمع الدولي على قادة الانقلاب باعتبار أن هدفهم الرئيس هو اعادة المسار الديمقراطي نسوا مهامهم وبدأوا يتعاملون مع الانقلابيين بمساواة مع القوى الديمقراطية في حين أن دورهم يفترض عليهم عدم الحياد .
فولكر والمنهج الأوروبي:
بالرغم من الهجوم الفظ والعار الذي يقوده الفلول وأنصار الجيش ضد فولكر ، ورغم التهديدات التي طالته من قائد الانقلاب عبدالفتاح البرهان الذي هدد بطرده إلا أن بيرتس رئيس البعثة الأممية ، يتعامل مع الراهن السياسي في السودان انطلاقاً من المنهج الأوروبي المرتبط بتاريخ أوروبا الذي بدأ بالاقطاع مروراً بعصر النهضة ملتزماً الربط بين القوة والصواب والسيطرة والحق ، فمن خلال الممارسة يتضح تماماً أن بيرتس يتعامل وفقاً لهذا المنهج مع قادة الانقلاب في مظنة منه أن المجتمع الدولي يمكن أن يقبل بهم تدريجياً ، والدليل على ذلك أنه وبالرغم من علمه التام بأن مقصد زيارة حميدتي قائد قوات الدعم السريع لدارفور هو بناء قاعدة اجتماعية تحسباً لأي تسوية سياسية قادمة ، تجاهل كل هذا السياق وقام بزيارة الى الجنينة في 2 يوليو الماضي وبصحبته وفد كبير قدم من خلالها دعم سياسي مجاني لأحد قادة الانقلاب ملقياً بنصائح مستشاريه على في (اكياس القمامة).
وبدلاً عن البحث لايجاد حلول لتعثر حوار الآلية الثلاثية ، بعد مقاطعة قوى الحرية والتغيير المجلس المركزي لجلسته الاقتتاحية ، لتعود مستجيبة للمبادرة السعودية الأمريكية وتلتقي بالعسكريين في منزل السفير السعودي ، لتتعثر هذه الوساطة أيضاً، ويعلن الفريق البرهان انسحاب الجيش من الآلية الثلاثية.. بدلاً عن بحث الحلول سافر فولكر لقضاء اجازة صيفية بعيداً عن حرارة الخرطوم وشمسها اللافحة، ليواصل الانقلابيون سيطرتهم على مقاليد الحكم بالحديد والنار يسقطون الشهيد تلو الشهيد ويزجون بالثوار إلى غياهب السجون وزنازين المعتقلات دون يقوم المجتمع الدولي بتوجيه أي إدانة لهم.
في المقابل منذ تكوين الآلية الثلاثية ظلت بعثة الأمم المتحدة خاضعة لتوجهات الاتحاد الأفريقي، فبالرغم من الانتقادات المستمرة من كل الأطراف المؤمنة بالديمقراطية في السودان للبعثة وطريقة الآلية الثلاثية في الحوار وافق فولكر على مقترح الاتحاد الأفريقي والايقاد لتأتي الجلسة الأولى للتفاوض مخيبة للآمال وحلقة معادة من حلقات حوار الوثبة الذي دعا إليه البشير في أيامه الأخيرة.
جايلز ليفز في قندتو:
في منتصف يوليو الماضي زار السفير البريطاني جايلز ليفز رئيس مجلس السيادة الإنتقالي الفريق أول ركن عبدالفتاح البرهان بمنطقة قندتو التي يقضي فيها الأخير أجازة عيد الأضحى.
وتطرق اللقاء حسب اعلام مجلس السيادة إلى مسيرة العلاقات السودانية البريطانية وأمن على ضرورة تحقيق التوافق بين جميع القوى السياسية وذلك عبر حوار جامع يفضي لتشكيل حكومة كفاءات مستقلة والاستعداد لاجراء انتخابات تعزز التحول الديمقراطي و ترسخ مبدأ التداول السلمي للسلطة .
من المؤكد أن زيارة السفير البريطاني للبرهان قائد الانقلاب في عطلة عيد الأضحى بمسقط رأسه تشير إلى أن حكومة جلالة الملكة عبرت عن اعترافها بحكومة الانقلاب وإلا كيف تفسر هكذا خطوة؟
تساهل مولي في وتعيين السفير:
في 13 يونيو أنهت مساعدة وزير الخارجية الأميركي مولي فيي، زيارة إلى الخرطوم بدأتها في 6 من ذات الشهر، لدعم عمل الآلية الثلاثية المؤلفة من بعثة الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي ومنظمة الإيقاد التي تيسر عملية سياسية تهدف إلى استعادة الانتقال المدني.
وعقدت مولي في لقاءات مع ممثلي لجان المقاومة والأطباء والمحامين وعائلات الشهداء، إضافة إلى الجبهة الثورية وائتلاف الحرية والتغيير وقادة الجيش الحاكمين.
وقالت سفارة الولايات المتحدة في الخرطوم إن مولي شددت في جميع لقاءاتها على “الضرورة الملحة للتنازل عن السُّلطة لحكومة انتقالية بقيادة مدنية”.
والغريب أن مساعدة وزير الخارجية الأمريكي بعد عودتها لواشنطون بدت متساهلة لحد كبير مع الانقلابيين الأمر الذي أدى إلى استقالة مبعوثين خاصين للولايات المتحدة لدى السودان وهما جيفري فيلتمان وديفيد سترفيلد.
وفي ذات السياق وامتداداً لمرونة مولي في اعتمد مجلس الشيوخ الأمريكي، الدبلوماسي جون جودفري، كأول سفير للولايات المتحدة بالسودان منذ 26 عاماً، وكان الرئيس الأميركي، جو بايدن، قد رشحه في يناير العام الماضي، وأعلنت حكومة رئيس الوزراء السابق، عبد الله حمدوك، تبادل السفراء، واستلم نور الدين ساتي مهامه سفيراً للسودان لدى واشنطن.. وبعد الانقلاب عين البرهان (سفير جديد)..!!
وجود سفير امريكي بالخرطوم يعني أن العلاقة بين الخرطوم وواشنطن ستكون مباشرة بعيدة عن الوسطاء، علاقة حقيقية وليست مبنية على مصالح دول أخرى، ففي الفترة الماضية كانت العلاقة يشوبها نوع من (التغبيش) ووجود سفير مهم لتبادل المصالح بين البلدين .
اختيار جودفري جاء لأنه سيفهم تعقيدات الوضع في السودان والمنطقة، وبحسب العرف الدبلوماسي يتم اختيار السفير لأربع سنوات؛ الأولى يدرس فيها الأحداث، وفي الثانية يحاول أن يتحرك قليلاً في بعض الملفات، وبعدها يكون منتجاً للحلول أحياناً، وعندما يكمل الفترة المحددة له يكون قد وصل قمة إنجازاته ..ويبقى السؤال هل يتم ذلك في ظل سيطرة الانقلابيين ..من الواضح أن واشنطن منحت الخرطوم جذرة وتركت العصا جانباً خاصة وأن العقوبات التي فرضتها لم توقف القمع التي درجت السلطات الانقلابية تواجه به الثوار السلميين.
(غباش) الرؤية:
من خلال التحركات الدبلوماسية يتضح (غباش) رؤية المجتمع الدولي تجاه الأزمة السياسية السودانية وعدم إلمامها بكثير من تفاصيلها وبالواقع السياسي السوداني، وشاهد العدل على ذلك حضور بعض السفراء لمبادرة الشيخ الطيب الجد التي يقوم عليها رموز من النظام البائد ويرعاها علي كرتي من خلف حجاب وإذا كان التبرير بأن وزارة الخارجية ضغطت ولا حقت السفراء لتلبية الدعوات فهي ذات الوزارة التي ظلت تستدعي فولكر وعاد إليها عشرات من كوادر الحركة الاسلامية .
من الواضح أن بعثة الأمم المتحدة والمجتمع الدولي يتخبطون في الظلام غير مدركين بأنهم يستعدون قوى الثورة والتحول الديمقراطي على مختلف مشاربها بشكل متزايد، وعلى (يونتامس) أن تتذكر أن البند الأول من مهامها هو دعم التحول الديمقراطي وليس الوقوف متفرجة على اغتيال احلام السودانيين في الحرية والسلام والعدالة.
ان خطورة الوضع الحالي في السودان تنذر بحرب أهلية قادمة تهدد الأمن والسلم العالميين كما ستؤدي الى انزلاق السودان وكل منطقة الساحل في محاور حرب عالمية تبدو بوادرها اليوم بأكروانيا وما تقرير (السي إن إن) والتلغراف عن تهريب الذهب السوداني الى روسيا ببعيد عن الاذهان .
الوضع في السودان يحتاج للتعامل بجدية أكثر من الخفة والتساهل التي يبديها المجتمع الدولي حالياً في اطار البحث عن تبريرات لقبوله التدريجي بالانقلاب..وهذا يعني انه مصاب بمتلازمة ستوكهولم فيما يتعلق برؤيته للأزمة السودانية.