من الواضح الآن أن الأمور تسير بالحرية والتغيير في اتجاه المفاوضات مع النظام الانقلابي، وذلك هو ما أشارت إليه تصريحات الآلية الثلاثية في مؤتمرها الصحفي الأخير، وهو أيضاً ما حملته تصريحاً وإضماراً وعلى نحو مفاجئ، بيانات الحرية والتغيير الأخيرة، دون تفسير أو تبرير للانتقال من مربع اللاءات الثلاث إلى مربع العملية السياسية. لهذا يكون لزاماً على كل الحادبين على تأسيس الدولة المدنية الديمقراطية وفتح الأبواب أمام التحول الديمقراطي الحقيقي إثارة الأسئلة حول هذه المفاوضات ومن ضمنها السؤال عن أهلية الحرية والتغيير وقدرتها على تحقيق تلك الأهداف من خلال التفاوض.
أولاً، درءاً للخلط، أنا لست من أهل اللاءات الثلاث، وإن كنت أتفق معهم في لا ونصف منها. أتفق معهم في لا للشرعية، وأخالفهم في لا للتفاوض، وأتفق معهم جزئياً في لا للمشاركة، لأن أي تفاوض، ما لم يكن حول شروط الاستسلام وهو أمر غير وارد حالياً، سينتج عنه نوع ما وقدر ما من المشاركة. هذا النوع وهذا القدر من المشاركة ستحدده كفة كل من الطرفين المتفاوضين، أي كفة هي الأرجح والأكثر تأهيلاً بحساب عوامل القوة والقدرات والاستعداد والإعداد الجيد للمفاوضات، وهذا يعود بنا إلى سؤالنا الأساسي، هل الحرية والتغيير مؤهلة الآن لمفاوضة النظام الانقلابي؟
بالطبع لا يمكننا أن نغض الطرف عن أن رفض المفاوضات يعود، بصورة أو بأخرى، إلى رغبة قطاع من قوى الثورة في تحقيق أهداف “جذرية” واستئصال كل آفات الدولة السودانية بضربة قاضية واحدة، وبالطبع فإن ذلك يتعارض مع طبيعة المفاوضات التي تقوم على التنازلات المتبادلة. ولكن وبصرف النظر عن ذلك، فإن الحرية والتغيير تتحمل قدراً كبيراً من المسؤولية عن رفض قطاعات واسعة من الجماهير ولجان المقاومة للتفاوض، لأن فشلها السابق في تحقيق أهداف الثورة والتطلعات المشروعة للجماهير أوصل تلك القطاعات واللجان إلى قناعة، بصرف النظر عن كونها منطقية أم لا، تتمثل في رفض المفاوضات ذاتها كمنهج لحل النزاعات. لقد فشلت المفاوضات في السابق ليس لعيب في المفاوضات في حد ذاتها، فهي ما زالت الوسيلة الأفضل عالمياً لحسم النزاعات، وإنما لفشل المفاوضين نيابة عن الشعب، وهم الحرية والتغيير، في إدارة المفاوضات لصالح (موكليهم) وتحقيق أهدافهم.
لقد فشلت الحرية والتغيير في التفاوض وأحرزت تلك النتائج البائسة، في وقت كانت فيه أفضل حالاً وأمتن اتحاداً وأكثر قوة وعافية مما هي عليه الآن. لقد خرج الحزب الشيوعي وكذلك تجمع القوى المدنية منها، وتحللت وتفتتت كتلتاها الأساسيتان، قوى الإجماع الوطني ونداء السودان، وفصلت منها بعض الأحزاب والقوى، وتمزق بنيانها إلى أكثر من حرية وتغيير. ولكن الأخطر من ذلك كله الآن هو وجود الجبهة الثورية ليس فقط داخل هيئات الحرية والتغيير وإنما على سنام قيادتها في ذات الوقت الذي تجلس فيه قيادات تلك الجبهة الثورية على قمة أجهزة السلطة الإنقلابية في مجلس السيادة ومجلس الوزراء. كيف يمكن للحرية والتغيير أن تفاوض الانقلابيين والإنقلاب موجود داخلها وفي قيادتها؟ إن ذلك الأمر يشكل خسارة وهزيمة كبرى للحرية والتغيير حتى قبل أن تبدأ المفاوضات. إذا كانت الحرية والتغيير ترغب أولاً في اكتساب احترام الشعب، وثانياً، في تمثيله في المفاوضات لتحقيق أهدافه، فإن عليها أن تحسم هذا الأمر فوراً بأن تضع الجبهة الثورية وبصورة حاسمة أمام أحد الخيارين، إما البقاء في الحرية والتغيير أو البقاء في أجهزة السلطة
الانقلابية. إن تعلل الجبهة الثورية بمتطلبات اتفاقات جوبا للسلام لغو باطل لأن ما يتمسك به قادتها في الحقيقة ليس له علاقة بالسلام ولا بالأمن وإنما بمناصبهم في السلطة ومصالحهم الشخصية. إن ما يحدث في دارفور الآن من مذابح في كرينك وغيرها، دع عنك أي شيء آخر، كان كفيلاً بأن يدفعهم جميعاً للاستقالة من مناصبهم فوراً لو كان السلام وأمن المواطنين وارداً في همومهم الأساسية.
إن الفشل ليس عيباً ولا جريمة، وهو بالقطع لا يمنع من تكرار المحاولة وهو ليس حكماً قاطعاً بعدم قدرة الشخص على النجاح، بل إن الفشل قد يكون في بعض الأحيان سبباً وحافزاً للنجاح. إن العيب ليس هو الفشل وإنما عدم التعلم من الفشل. إن دعوتنا لمنع الحرية التغيير، في وضعها الحالي، من خوض المفاوضات مع الانقلابيين لا ترتكز فقط على فشل الحرية والتغيير في إدارة المفاوضات من قبل، وإنما لأنها قد فشلت أيضاً في التعلم من الفشل واستكناه دروسه. في البداية كانت الحرية والتغيير ترفض مجرد الاعتراف بالفشل وتزعم أنه لم يكن في الإمكان أفضل مما كان، وبعد انقلاب 25 أكتوبر اضطرت إضطراراً للإعتراف بأنها قد ارتكبت أخطاء، وتحدثت عن ضرورة النقد الذاتي، ولكنها لم تسمي أو تحدد تلك الأخطاء إلا بصورة معممة، ولم تطرح الموضوع لمناقشة جادة، ولكأنما مجرد الإشارة للنقد الذاتي تشكل، في عرفها، نقداً ذاتياً كافياً. ذلك ليس نقداً، ذاتياً أو موضوعياً، بل هو إساءة وتشويه لمفهوم النقد الذاتي أو التقييم الموضوعي والذي يقوم على تحديد كل الأخطاء بوضوح وتفصيل وشفافية، وسبر غور أسبابها، وتحديد وتسمية المسؤولين عنها ومحاسبتهم، وأهم من ذلك، تسجيل الدروس المستفادة، ووضع الإجراءات التي تكفل عدم تكرار تلك الأخطاء ورسم الخطط التي تفضي إلى