الحرب على أوكرانيا كشفت زيف ونفاق واذدواج المعايير عند الغرب
لقد تكشفّت آثار الحرب الروسية الأوكرانية عن ازدواجية المعايير في عنصـريـة الغـرب “الحرّ المتحضر”، وكذب نُخبه وإعـلامه، وزيف شعاراتهم الإنسانية المزعومة، فها هو اليوم يرفع عنوان السيادة والوَحدة الترابية للوقوف ضدّ الغزو الروسي، بينما داس على كل مواثيق الأمم المتحدة في احتلاله لأفغانستان والعراق وتفكيك ليبيا وتدمير سوريا وحرق اليمن.
وبكل جرأة تستنفر وزيرة خارجية بريطانيا مواطنيها وعموم الأوروبيين للقتال في أوكرانيا، أمّا التجنيد سابقا في العراق والشيشان والبوسنة والهرسك وغيرها فهو “إرهاب”، بل إنّ دول أوروبا ترفض حتّى استقبال العائدين من ميادين القتال العربية والإسلاميّة.
لا ننسى أنّ الدول الغربية حرّمت على الفلسطينيين والعراقيين التزوّد بالسلاح، لأنّ مقاومتنا ضدّ الاحتلال “إرهاب” موصوف عندهم، أمّا اليوم فإنّ السِّلاح النوعي والصواريخ المضادّة للطائرات وكلّ الآليات العسكرية تتدفّق على أوكرانيا.
وطيلة عقودٍ من الوحشية الصهيونية، تجاهل الإعلام الغربي، إلاّ ما ندر، جرائم الحروب الإسرائيلية المتعاقبة ضدّ الفلسطينيين والعرب، لكنه اليوم يبكي لحال الأوكرانيين، واصفًا روسيا بالعدوّ.
بل إنّ العمل الفدائي يمكن أن يكون إرهابًا انتحاريّا عندما يتفجّر ضدّ الغزاة الصهاينة أو الأمريكيين في العراق وفلسطين وأفغانستان، لكنه يصبح بطولة عظيمة عند مواجهة الروس، وفق الخطاب الإعلامي الغربي.
وحتّى المؤسسات الدولية تبقى كلها مجرّد أدوات في أيديهم، بدليل أنّ محكمة الجنايات الدولية تحرّكت بعد 4 أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، في حين لم تجد شكاوى فلسطين والعراق الموثقة ضد جرائم أمريكا وإسرائيل طريقها سوى إلى سلة المهملات.
أمّا منظمة “الفيفا” التي عاقبت رياضييّ العرب والمسلمين على خلفيّة دعمهم للشعب الفلسطيني، فهي تصنّف اليوم شعارات التضامن الأوروبي مع أوكرانيا “عملاً إنسانيّا” خارج ممنوعات السياسة.
هذا التناقض الصارخ هو ما أخرج النائب الأيرلندي، ريتشارد بويت، عن صمته، ليفضح ازدواجية معايير الغرب بقوله إنّ “خمسة أيام من الحرب فرضت عقوبات شديدة على بوتين، مقابل 70 عامًا بلا عقوبات على إسرائيل”.
إنّ تعامل الغرب الأمريكي الأوروبي مع الحرب الروسية في أوكرانيا يبرهن مرة أخرى أنّ كل تدخلاته المتلاحقة في جغرافيا العرب والمسلمين كانت حربا حضارية ومعركة مصالح مادية مصيريّة، في إطار مشروع الهيمنة، لكنه نافق الإنسانيّة بشعارات “السلم” و”الأمن” و”محاربة الإرهاب”، بينما هو المصدر الأول لأفعاله وعقيدته.
كما شكّل الخطاب الإعلامي للغرب، في غضون هذه الحرب الجديدة، صدمة كبيرة لدى الغافلين عن حقيقة الشعارات الزائفة للإنسانية الانتقائية، وهم يسمعون حديث المذيعين والمراسلين، وعبر الهواء مباشرة، عن محنة العيون الزرقاء والشعر الأشقر والإنسان الأبيض، حتّى أنّ صحفيّة قناة “سي. بي. أس”، تشارلي داغاتا، نطقت بكل وقاحة أنّ: “أوكرانيا ليست العراق ولا أفغانستان، بل هي مكانٌ أوروبي متحضر، لا نتمنى أن يحدث فيه ذلك”.
بل إنّ التغوّل العنصريّ بلغ مداه بمنع الطلبة الأفارقة المقيمين في أوكرانيا، بسبب لون بشرتهم، من الخروج عبر الحدود أو طلب اللجوء إلى دول الجوار الأوروبي هربًا من أهوال الحرب، بينما حين يتعلّق الأمر ببني جلدتهم تنطلق صرخة كيلي كوبيلا، مراسلة محطة “أن بي سي” في قومها أنّ “هؤلاء ليسو لاجئين من سوريا، إنهم من أوكرانيا المجاورة، هؤلاء مسيحيون، إنهم بيض”.
وإذا كان المهتمُّون بحقل العلاقات الدوليّة يستشرفون الآن تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على منظومة القانون الدولي الهشّة، والتي تظلّ مجرد تنظيرات فلسفيّة ومواثيق على الورق من دون قوّة إلزاميّة، فقد فضحت وقائعُها مرّة أخرى سقوط المنظومة الأخلاقية الغربيّة تجاه مبادئ حقوق الإنسان “القابلة للتجزئة” في الواقع، ناهيك عن تداعي المهنيّة الإعلاميّة أمام نزعة الاستعلاء الأوروبي.
لكن الأهمّ، هو أن تثير فينا نحن تجليات هذه الحرب الوعي الحضاري تجاه المبادئ الحداثيّة الغربيّة الزائفة التي يريدها المستلبون في بلادنا خارطة طريق خادعة لاستئناف النهضة القوميّة، فهي لا تعدو أن تكون شعاراتٍ مضللة لتسويغ التدخلات الاستعمارية في جغرافيا الآخرين، باسم نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان والحفاظ على البيئة وفرض السلم والأمن العالميّين، بينما المبتغى الأول هو بسط السيطرة الكونيّة على مقدرات الشعوب وتسخيرها في خدمة الغرب ومصالحه المقدّسة، وفي سبيل ذلك يجيزون لأنفسهم انتهاك كل المحظورات الدوليّة وفق النظريّة الميكيافليّة.
لقد شاهدنا كيف برز بقوّة، في لحظة كشْف “الأنا الغربي”، الخطابُ الدينيُّ الصليبي والعنصري، ليُثبت أن العلمانيّة والحداثة والقيم العالميّة وحقوق الإنسان ليست في أحسن الأحوال إلا حقوقًا للغربيّين وحدهم، أمّا باقي البشر فهم دون ذلك ليتمتعوا بنفس المساواة.
طبعا نحن لا نطمح إلى مقاسمتهم تلك المبادئ في حال منافاتها لقيمنا الدينية والحضاريّة، بل ما نريده هو استفاقة دعاة التنوير الحداثي الزائف في بلادنا، وتحصين الأجيال من الاهتزاز الفكري والهزيمة النفسية أمام دعاية المركزيّة الغربيّة، لأن البديل الوحيد للبشريّة في أزمتها المعاصرة هو الإسلام الإنساني