أخبار ساخنةأهم الأخبارالأزمة السودانيةمقالات الرأي

دارفور…ضحايا الأرض المحروقة..!

شرق تشاد: شمائل النور

قبل غروب شمس الإثنين؛ الثاني من مارس، خرجنا من الخرطوم في طريقنا إلى دارفور براً، كنا مثقلين برهق أزمات صفوف الخبز، الوقود والمواصلات.

 وفي ظن كثيرين إنها أعلى مراتب المعاناة التي ليس بعدها إلا تلاشي الأمل. أن تقضي الساعات الطوال في انتظار خبز أو وقود أو حتى وسيلة مواصلات تقلك إلى مكان عملك أو تعيدك لمنزلك.

لكن على بعد ما يقرب (2000) كلم غرباً باتجاه تشاد حيث معسكرات اللاجئين الذين فروا من ويلات حرب دارفور. عندها شاهدنا بأم أعيننا أن تلك الصفوف التي خلفناها وراء ظهورنا كانت أعلى مراتب الرفاهية.

الحرب في ظل الثورة.!


تسيدت قضية السلام ووقف الحرب شعارات ثورة ديسمبر المجيدة وحصد ضحايا الحروب في السودان رصيداً وافراً من الدعم والتضامن خلال الثورة بتسيير المواكب التي استمرت نحو أربعة أشهر قبل خلع البشير، لكن الحرب لم تتوقف ولم يتوقف معها النزوح واللجوء.

فقد سجلت أول موجة لجوء بعد الثورة في فبراير الماضي نحو (11) ألف لاجئ من غرب دارفور إلى تشاد بعد أحداث منطقة “كريندنق” وفقاً لإحصائيات حكومة غرب دارفور.


وفقت المنظمات في شرق تشاد أوضاع (4) آلاف منهم، بينما ينتظر البقية في الحدود إلى حين توفيق أوضاعهم وتسجيلهم “لاجئين”.


التقينا وفداً منهم في أحد الأودية الواقعة بين المعسكرات، تحدثنا كثيراً عن الحرب والتشرد بعد الثورة التي أسقطت نظام البشير، بالنسبة لهم ليس في الأمر غرابة، لأنهم مدركون أن البشير سقط لكن المؤتمر الوطني موجود، هكذا كان رد أحد الذين تحدثوا إلينا.

 وعلى بعد مترين يجلس شيخ كبير اكتسى الحزن الممزوج بطمأنينة حذرة وجهه، سألته: كيف الحال، رد “الحمد لله شهر ما سمعنا سلاح”. مرور ثلاثين يوماً بلا دوي رصاص يمثل لهذا الرجل الطمأنينة التي يبحث لها كل إنسان.


وقبل وصول هذه الموجة الجديدة من اللجوء جراء أحداث “كريندنق” ظلت عالقة في الحدود (27) يوماً دون أن تصلهم السلطات السودانية ولم تنجُ النساء من الولادة في العراء تحت مخاطر صحية جمة . وتمثل حادثة “كريندنق” التي وقعت بعد الثورة طعنة نجلاء في خاصرة الأمل الذي دب في نفوس الضحايا في أعقاب سقوط البشير لكن الأنظار تترقب منبر جوبا.

العدالة التي لا تقبل المزاح


” أنا بعد الشُّفْتُو بعيني هناك، ما أظن أرجع”. سيدة نحيلة تتحدث عن وجعها وكأنه حدث البارحة، لا تزال تذكر بالتفصيل ما جرى في عام 2004 حينما انفجرت الحرب، سألتها عن رأيها فيما يجري وإمكانية العودة إن تحقق السلام.

 فكان ذلك ردها، ثم واصلت “أنا بيدي دي دفنت 6 من أفراد أسرتي” وتتابع “أنا هسا مقطوعة” أي بلا أسرة، السيدة التي احتشدت ملامحها بالقهر والشعور المتعاظم بالظلم تتجاوز شرط توفر الأمن، وتضع العدالة شرطاً لعودتها بقولها ” أنا لو ما شفت البشير اتحاكم ما برجع”.


هذه السيدة لا تتخذ موقفاً متشدداً، بل هو الموقف الموحد والمطلب الرئيسي لكل الذين جلسنا معهم وتجولنا وسطهم، والعدالة بالنسبة لهم لا تقبل أية درجة من “المزاح السياسي”.

 وهي أن يُقدم كل مرتكبي الجرائم إلى العدالة عاجلاً، وأن يرى الضحايا أن الحق عائد لا محالة، ويجد الحديث عن العدالة صدى واسعاً وسط الضحايا الذين يترقبون استرداد حقهم بعد الثورة التي أزاحت النظام الذي تسبب في إخراجهم من وطنهم.

 وكما لقضية العدالة درجة عالية من الأهمية ضمن مطالب الضحايا، فإن قضية توفر الأمن تأخذ ذات الأهمية، فدون توفر الأمن لا إمكانية للعودة، وتوفر الأمن مرتبط وثيقاً بتفشي السلاح في الإقليم المأزوم ولم تفلح الحملات الرسمية لجمع السلاح في وضع حد لانتشاره.

 وسلَّحت الحكومة المركزية طيلة سنوات الحرب قبائل عربية في معاركها مع الحركات المسلحة على رأسهم الزعيم القبلي موسى هلال والذي يمثل أباً روحياً لما يُعرف بقوات “الجنجويد” وتبعاً لذلك استمر مسلسل التسليح وأعلنت حكومة البشير قبل سنوات حملة لجمع السلاح.

 لكن الكثير من المجموعات العربية استعصمت بسلاحها، وعطفاً على توفر الأمن، يتصاعد الحديث عن ضرورة بناء موارد جديدة وتوفر الخدمات الأساسية من تعليم وصحة.

الحنين للوطن.!


في معسكر “قاقا” وبينما نحن في مدخل المعسكر الذي استعد لاستقبال رئيس حركة تحرير السودان؛ مني أركو مناوي، ضمن جولته في معسكرات شرق تشاد، أتت إلينا سيدة تبدو في العقد الخامس من عمرها، أقبلت علينا وعيناها تحتضننا قبل يديها “سلام، جيتو من السودان”، رحبنا بها وتصافحنا، قلنا لها “نعم، جينا نسلم عليكم”: ترقرقت عيناها بالدموع ورفعت كفيها تدعو “الله يودينا السودان”.


واللافت أن الغالبية العظمى ترغب في العودة بشكل عاجل حال توفر شروطها، مدفوعين بحنين دافق للأرض والزرع والمرعى، لكن بعض الأحلام بالهجرة تشكلت خلال سنوات اللجوء. زهراء، سيدة ثلاثينية، زرتها في بيتها وسط ترحيب وكرم فياض رغم قلة الفئران في بيتها.

 لزهراء (5) أطفال، زوجها فارقها منذ فترة ومتزوج من (3) زوجات، وتعاني النساء مع ويلات الحرب، تعدد الزوجات وتحمل عبء الأطفال وتربيتهم، لكن زهراء كانت بروح معنوية عالية، كنت أسأل نفسي ما سر هذه الروح التي ملأت دارها الصغير.

 قبل اجتهادي في أن أجد الإجابة، أحضرت لي زهراء والفرحة تغمرها ما يُعرف بـ “كرت الهجرة”، حيث حصلت على فرصة للهجرة إلى أمريكا، وتتوفر فرص الهجرة هناك على نحو خاص نظراً لظروف الحرب التي عاشها الضحايا.

إن كان للحرب اللعينة حسنة..!


لفت نظرنا ونحن نتجول في (4) معسكرات؛ (بريجن، قاقا، كوننغو، ملي) والتي يُقدر عدد اللاجئين فيها بـ (150) ألف، أن تياراً بارزاً وسط هذه المعسكرات ينادي بضرورة إشراك اللاجئين والنازحين في المفاوضات الجارية الآن في جوبا.

وهو صوت يمثله الشباب بشكل خاص، وانتهى هذا الصوت بأن يُمثل اللاجئون والنازحون في المفاوضات؛ (3) من كل معسكر، ذلك بعد ورشة انعقدت بمدينة أبشي التشادية، ويعبر كثير من اللاجئين عن طول انتظارهم لسلام حقيقي بعد تجارب هنا وهناك جزأت عملية السلام ولم تحسم حقوق الضحايا.


والصورة هنا ليست بعيدة عن الخرطوم، حيث تبرز قوى حديثة رافضة لشكل هيمنة القوى التقليدية على القرار السياسي. وكان بائناً تشكيل مواقع التواصل الاجتماعي لثقافة وقيم شبه موحدة في كل السودان؛ المعسكرات ليست استثناء منها.

وإن كان ثمة حسنة لهذه الحرب اللعينة، فهي ذاك الوعي الذي تشكل في مخيمات اللجوء، وعي حقوقي قلما يقابلك في مجتمعات محلية أخرى في السودان.

 الوعي بقضية العدالة يتجاوز الانتقام والتشفي بشكل مدهش. وكذلك الوعي بسياسات الحكومات المركزية السابقة بما يُمكن تسميته تفتيت النسيج الاجتماعي.

فحينما يتحدثون عن الحواكير و”المستوطنين الجدد” يصرون على التأكيد “نحن ما عندنا أية مشكلة مع العرب، لكن الحكومة عايزة مشكلة”.

 ويبدو أن هناك استعداداً لمصالحة اجتماعية بعد إنجاز عدالة لا تستثني أحداً. والوعي الذي لمسناه لا يتوقف عند هذا الحد، بل يصل للحقوق الاقتصادية ومسائل الثروة على نحو مسامح.

لن أنسى وصية تلك السيدة حينما هممنا بمغادرة أحد المعسكرات، وكأنها تُوصي الجميع بمقولتها التي لن أنساها “ما تقولو نحن ناس قرى وتمشوا تنسونا”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons