د. تجاني السيسي حاكم دارفور الاسبق يكتب … الاسباب التي ساهمت في تفاقم الصراعات القبلية في دارفور ..1
اشتهر مجتمع دارفور عبر التاريخ ومنذ قيام السَّلطنة في القرن الخامس عشر بالتسامح، حيث أن نبذ العنف وعدم الاعتداء على ممتلكات الآخر من أهم سمات المجتمع الدارفوري، وكان للإدارة الأهلية القدح المعلى في الحفاظ على الأمن والسِلم الاجتماعي في حواكير السلطنة، بيد أن الوضع الأمني بدأ يسوء تدريجياً بعد قرار حكومة مايو بحلها في عام 1971م.
والصراعات القبلية في دارفور ليست بظاهرة جديدة، وأن أول صراع قبلي في تاريخه الحديث كان عام 1932م، بين الكبابيش والبرتي والكواهلة والميدوب، وشهدت دارفور خلال العقود الخمسة الماضية صراعات قبلية متعددة من هذا النوع الذي يطلق عليه الصراعات المنخفضة الحدة.
ولكن في سبعينيات القرن الماضي أسهمت عوامل عدة في التأثير وبصورة مباشرة على الوضع الأمني في دارفور وزعزعة استقراره، ومنها الاضطراب الأمني في دول الجوار الذي لعب بدون أدنى شك دوراً محورياً في الاضطراب الأمني الذي عَمَّ إقليم دارفور منذ بداية سبعينيات القرن الماضي، وشهدت فيها المنطقة ازدياداً لحالات التدخلات الأجنبية المسلحة في أعقاب تصاعد وتيرة الحرب التشادية ـ التشادية والتشادية ـ الليبية.
وبما أن بعض القبائل في دارفور مشتركة مع دول الجوار (ليبيا، تشاد، وإفريقيا الوسطى) فلقد أدت التدخلات الأجنبية المسلحة إلى إحداث استقطابات قبلية وإثنية بين أطراف الحدود المشتركة، وبصفة خاصة مع دولة تشاد. ومما زاد الأمر تعقيدا مطامح العقيد القذافي التوسعية وأطماعه في المنطقة واستخدامه للبعد الاثني في حربه ضد حكومة الرئيس حسين حبري، وذلك بدعم المجموعات العربية التشادية لمقاومة النظام في تشاد، وعليه لم يتردد حسين حبري من اللجوء إلى والاعتماد على القبائل ذات الأصول الإفريقية، مثل القرعان والزغاوة في مواجهة استراتيجية وتهديدات القذافي.
لقد شهد إقليم دارفور في تلك الأثناء تدفقاً غير مسبوق للأسلحة من الجماهيرية العربية الليبية، وتم توزيعها عبر فصائل المعارضة التشادية لبطونها في دارفور لدعمها في مقاومة السلطة في تشاد. وبهذا الاستقطاب الاثني الحاد في تشاد تعمدت بعض أطراف النزاع إلى إحداث استقطابات إثنية في دارفور، مما أدى إلى تأجيج الصراع بين القبائل العربية، وما سمي بقبائل الزرقة ذات الأصول الإفريقية، الأمر الذي انعكس سلباً على الأمن والسلم في الإقليم.
وكان إحدى أسباب تصاعد وتيرة الصراعات القبلية في دارفور هو النهب المسلح والتي بدأت حالاته في دارفور في الازدياد بعد تدفق الأسلحة وانتشارها عند بدء الحرب التشاديةـ التشادية والتشادية ـ الليبية، وبافتقار الشرطة إلى الآليات والأسلحة الكفيلة لمواجهة هذه الظاهرة الدخيلة، استفحلت وأصبح الإقليم رهينة في أيدي عصابات النهب المسلح التي امتلكت أسلحة حديثة كانت تفوق في كفاءتها أسلحة قوات الشرطة آنذاك، وكانت تقوم بالاعتداء على ممتلكات المواطنين وثرواتهم الحيوانية، وتخصصت في نصب الكمائن للمركبات التجارية، ونهب ممتلكات المسافرين.
لقد اتَّبَعَت عصابات النهب المسلح وسائل غير مألوفة لأهل دارفور آنذاك، وهو إطلاق النار عشوائياً على المركبات وقتل المسافرين الأبرياء، بل أكثر من ذلك كانت تُكَمِّن لرجال الشرطة، وتقوم بقتلهم ونهب أسلحتهم.
لقد ساهمت عمليات النهب المسلح في تفاقم الوضع الأمني بالإقليم، وزاد من حالة الاستقطاب الاثني والقبلي، بل أدخلت الشكوك وانعدمت الثقة بين مكونات المجتمع المحلي. ومما زاد الأمر تعقيداً الشعور الذي بدأ يتنامى عند مواطني دارفور، بعدم مقدرة الدولة على تأمين سلامتهم من أفعال عصابات النهب المسلح، وعجزها عن حسم هذه الظاهرة وبدأوا في اقتناء المزيد من السلاح .
من المسببات الرئيسية التي ساهمت في تأجيج الصراعات القبلية في دارفور هي الهجرات واضطراب نظام الحواكير. حري القول أن سلطنة دارفور بدأت في القرن السابع عشر باستحداث نظام لحيازة الأرض عرف بنظام الحاكورة (دار) أو (بَرُوـ كما يطلق عليه في لغة الفور)، وهي تعني الأرض التي تمنح بصك سلطاني لشخص أو لقبيلة معينة، وتكون تحت إدارة زعيم القبيلة (دملج، شرتاي، ملك، ناظر) لممارسة السلطات عليها لمنفعة قاطني الحاكورة. وعند ازدياد هجرات القبائل خاصة العربية منها من غرب إفريقيا إلى سلطنة دارفور اتسعت رقعة الحواكير، وقامت السَّلطنة بمنح القبائل الوافدة خاصة الكبيرة منها دياراً باسمها.
أما القبائل الصغيرة فكانت تخضع لإدارة هذه القبائل الكبيرة، وكان على كل رئيس قبيلة إدارة شئون القبائل التي تعيش في داخل الحاكورة. بعد غزو دارفور وإلحاقها بالسُّودان استمرت السلطة الاستعمارية في تطبيق نظام أهلي بُنِيَ على ما ورثته من السلطنة. ولكي تكون للقبيلة إدارتها المستقلة فمن الضرورة أن تكون لها حاكورة، وبالتالي أدت مطالب القبائل الصغيرة لتأسيس كيانات إدارية مستقلة لها إلى بروز الكثير من الصراعات القبلية في دارفور.
وأدت هجرات القبائل من تشاد وبعض مناطق الساحل الإفريقي نتيجة للجفاف الذي ضرب الساحل آنذاك، واستقرارها في دارفور إلى خلق المزيد من التعقيدات في نظام الحواكير، وذلك لأن القبائل الوافدة وجدت نفسها خارج أطر الحواكير، فلجأت إلى استخدام العنف لانتزاع الحواكير وبتشجيع من السلطة المركزية في الخرطوم، والتي كثيراً ما أغمضت أعينها عن النزاعات الدامية التي دارت حولها، بالإضافة إلى تعيين وترقية رؤساء إدارات وإنشاء إدارات أهلية جديدة لا تتمتع بحقوق ملكية الحواكير، مما أدى إلى تأجيج وتيرة الصراعات القبلية، وخلخلة الأمن والسلم الاجتماعي.
لقد تعددت وتنوعت الآثار والنتائج السلبية للهجرات إلى دارفور، من وسط وغرب إفريقيا في أواخر ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، وشهد الإقليم تنامى ثقافة العنف، وعدم التورع في ارتكاب جرائم القتل لأتفه الأسباب، وتفشت ظاهرة النهب والسرقة بصورة غير مسبوقة في تاريخ دارفور، ولعل أبرز هذه النتائج هو الاختلال في منظومة الأعراف والتقاليد التي تحكم السلوك الفردي، ونظم العلاقات البينية لدى الكثير من الكيانات والمجتمعات في الإقليم.
لقد أصبح عدم الاعتداد أو الالتزام بالأعراف والتقاليد التي تنظم فض الخلافات والنزاعات بين القبائل المتعاهدة، وعدم الامتثال أو احترام القانون وفرض الذات والتدخل في الشؤون الداخلية لتلك المجتمعات بغية تفتيت لحمتها السمة الغالبة في سلوك بعض المجموعات المهاجرة الوافدة