الأزمة السودانيةمقالات الرأي

16 أكتوبر يوم العبر والاعتبار والتوافق الوطني

(1)
إن امريكا لا تصل للحقيقة الا بعد استنفاد كل الخيارات الخاطئة هكذا وصف الحكيم البريطاني تشرشل بدقة متناهية تعاطي أمريكا مع القضايا السياسية الدولية والتي تنزع فيها دوما لاستخدام القوة المتناهية ثم تعود وتدرك أن الحوار والدبلوماسية هما الحل والقوة في أحدث تعريفاتها هي القدرة الإنسانية على التوافق والانسجام.
(2)
ظلت القوى السياسية الوطنية تتعاطى مع قضايا البناء الوطني الموروثة منذ الاستقلال بذات العقلية الأمريكية في السياسة الدولية، فقد استنفدت الحركة الوطنية كل الخيارات مع قضية الاستقلال الوطني(الوحدة مع مصر تحت التاج المصري، والسودان للسودانيين) وفي النهاية اهتدت إلى الاستقلال المحض
(3)
هتفت النخب السياسية في مرحلة ما بعد الاستقلال بأن الديمقراطية نور ونار ومن أراد نورها فليصطلي بنارها ولكن ماهي العمليات والنتائج؟؟ بدلا من استخدام الادوات الاستراتيجية لغرس ومأسسة الديمقراطية، وظفت تلك النخب كل التكتيكات لوأدها ثم سلمت الحكم للفريق عبود عام 1958، ثم عادت ذات القوى السياسية وشكلت الجبهة الوطنية لاستعادة الديمقراطية وتكلل التدافع السياسي مع النظام بثورة أكتوبر 1964، ثم عادت ذات القوى السياسية واختزلت شعارات الثورة في التنافس والمحاصصات حول وزارات حكومة جبهة الهيئات الأولى والثانية، وتبخرت مقررات مؤتمر المائدة المستديرة ولجنة الاثنا عشر وفي طليعتها قضية الجنوب التي انفجرت بسببها الثورة.
(4)
كذلك استنفدت القوى السياسية كل الخيارات الخاطئة في التعاطي مع التجربة الديمقراطية الثانية 1966 إلى 1969 وتمظهر ذلك في بروز كتلة أيدت انعقاد الانتخابات في ميقاتها بقيادة حزب الأمة، وكتلة التأجيل بقيادة حزب الشعب الديمقراطي، واستمر هذا التناقض والشرخ حول قضايا المصير الوطني داخل البرلمان حتى انقض اليسار العريض على السلطة بقيادة العقيد نميري في مايو 1969، ثم عادت القوى السياسية واسست الجبهة الوطنية من أجل استعادة الديمقراطية وبعد منازلات من النظام أبرزها ثورة ود المكي 1973، والصدام المسلح عام 1976 والمصالحة الوطنية عام 1977،تضعضع النظام المايوي حتى سقط في ثورة أبريل 1985.
(5)
نزعت القوى السياسية الوطنية لذات المماحكات والتناطح حول قضايا البناء الوطني والسلام والوفاق في التجربة الديمقراطية الثالثة 1986 إلى 1989 وهزوا شجرتها بعنف حتى قطف ثمارها الإسلاميون في انقلاب يونيو 1989. ثم عادت القوى السياسية إلى التكتل والتحالف تحت واجهات متعددة أبرزها التجمع الوطني الديمقراطي 1995 من أجل استعادة الديمقراطية وجرت المنازلة والتدافع السياسي بين حكومة الإنقاذ وخصومها على النحو الذي تعلمون.
(6)
لكن لم تكن تجربة التيار الاسلامي الوطني في الحكم أحادية بل استقطبت في تراتبية مؤسساتها المركزية والولائية والمحلية معظم القوى السياسية الوطنية في مواسم متعددة(مؤتمرات الحوار الوطني 1989، مبادرة الشريف الهندي 1997،اتفاقية الخرطوم وفشودة للسلام 1997، اتفاقية نيفاشا 2005، اتفاقية اسمرا والقاهرة 2006،اتفاقية أبوجا 2006،اتفاقية الدوحة 2011،مؤتمر الحوار الوطني 2014 ).
(7)
أدرك العقل الجمعي للاسلاميين بأن النظام الديمقراطي التوافقي هو الحل لأزمة الحكم، والوحدة الوطنية، وإدارة التنوع الثقافي والاثني والهوياتي، وعندما نزعت قيادة النظام السابق للسباحة عكس التاريخ والالتفاف حول مبادرة الحوار الوطني والانتقال الديمقراطي ومبادرة إصلاح المؤتمر الوطني، عندها تلاقت إرادة التيار الإسلامي الوطني مع إرادة كل القوى السياسية وقطاعات المجتمع وصنعت ثورة ديسمبر 2018. ولكن بدلا من إدارة مهام الثورة والانتقال، وقضايا البناء الوطني الديمقراطي المستدام بذات الوحدة وروح الشراكات التي صنعت الثورة، طفقت اقلية الأحزاب الأوزنية من قوى الحرية والتغيير لاختطاف الثورة واختزال قيمها وشعاراتها في نزعات تشفي وانتقام ماحقة، ومحاصصات ومغانم ثم ارتدت هذه العقلية الإقصائية داخل مكوناتها تناحرا وصراعا أشبه بحديقة الحيوان (الفأر يلتهم الفأر)، وتبنت الأحزاب الاوزونية كل القضايا الترفية من سيداو إلى حقوق المثليين وركنت كل قضايا البناء الوطني والتحول الديمقراطي، والوفاق والمصالحة الوطنية ومعاش المجتمع وثالثة الاثافي ايقظت العقلية الاوزونية الهويات القبلية والحهوية والإقليمية واضحى السودان بين خيارين اما الاحتراب الاهلي أو التشظي والتفكك.
(8)
لذلك فان 16 أكتوبر سيكون يوما لتحرير الثورة السودانية قيما وشعارات وسلوكا من الأحزاب الاوزنية لتظلل كل قطاعات المجتمع، ويوما لتحرير الثورة من الأجندة الخارجية الخبيثة، ويوما لاستعادة اللحمة والاندماج القومي السوداني، ويوما لسطوع التنوع السياسي والثقافي والاثني والديني السودانوي الخلاق، ويوما للوحدة الوطنية، ويوما لتحرر الاحزاب الاوزونية من عقلية الإقصاء وانضمامها للكتلة الحرجة الجديدة، 16 أكتوبر سيكون يوما للتسامح الوطني، ويوما لانهاء الثنائية التاريخية المضرة (نحن صناع الثورة والديمقراطية)، والآخر المتوهم (هم أعداء الثورة والديمقراطية)، وبالتالي تشكيل الكتلة التاريخية الحرجة وشعارها نحن كلنا أبناء وبنات السودان تواثقنا على إنهاء الدورة الشريرة في الحكم، وتعاهدنا على النظام الديمقراطي التوافقي والمستدام كرافعة استراتيجية لبناء مشروع النهضة السودانية

عثمان جلال يكتب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons