كردستان تنتظر زيارة البابا “لعرض تجربتها
في كل ركن من ملعب “فرانسو حريري” في مدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان العراق، تتواصل الاستعدادات اللوجستية والأمنية والثقافية لاستقبال رأس الكنيسة الكاثوليكية البابا فرانسيس، الذي سيؤم قداسا يضم 5 آلاف مؤمن في رابع أيام زيارته إلى العراق، التي ستبدأ في الخامس من شهر مارس الجاري وحتى العاشر منه.
الملعب المسمى على اسم الشخصية السياسية الآشورية المسيحية فرانسو الحريري، الذي كان قياديا في الحزب الديمقراطي الكردستاني، وواحدا من المنخرطين في الحركة التحريرية الكردية، واستشهد نتيجة عملية إرهابية استهدفته عام 2001، يدل على مستويات التداخل الاجتماعي والسياسية بين مختلف أبناء القوميات والديانات المتعايشة في إقليم كردستان العراق، من دون حساسيات متبادلة، في تجربة سياسية ومجتمعية تميز بها الإقليم عن باقي مناطق العراق طوال السنوات الماضية، ويسعى المسؤولون السياسيون والحكوميون في الإقليم لشرحها والتأكيد عليها أثناء زيارة البابا إلى الإقليم. نمرود نعمة، كلداني عراقي نزح من بغداد إلى إقليم كردستان عام 2008، ومنذ ذلك الوقت يملك ويدير محلا تجاريا في حي “عين كاوا” ذي الأغلبية المسيحية غرب مدينة أربيل، يخبر موقع “سكاي نيوز عربية” عن تجربة إقامته في الإقليم: “طوال أكثر من عشرة سنوات من العمل والإقامة في مدينة أربيل، ورغم الاختلاف الديني والاجتماعي عن أغلبية سكان المدينة، فإنني لم أتعرض لأي موقف تميزي، ولا شعرت بأية خشية على مهنتي ومكان إقامتي”.
يمثل نمرود عشرات الآلاف من المسيحيين العراقيين، الذين هاجروا من العاصمة وباقي المدن الجنوبية إلى إقليم كردستان بعد عام 2003، هربا من أعمال العنف والانفلات الأمني والصراعات الطائفية التي اجتاحت العراق بعد ذلك الوقت.
أمّن إقليم كردستان وقتئذ كافة أشكال الحماية لمئات الآلاف المهجرين إليه، التزاما بواجباته الدستورية والوطنية، حسبما يخبر الباحث عبد الحكيم مزوري “سكاي نيوز عربية”، مضيفا أن “انتقال هذه الأعداد من مسيحيي المدن العراقية إلى مدن إقليم كردستان العراق، أضاف لهذه الأخيرة تجربة تنوع ومبادرات اقتصادية وثقافية، زادت من مستويات التنمية الاجتماعية والإنسانية التي في الإقليم”.
التجربة الأخرى لإقليم كردستان واستضافته ورعايته لموجات نزوح المسيحيين العراقيين من باقي المناطق كانت عقب عام 2014، حينما اجتاح تنظيم “داعش” الإرهابي مدينة الموصل في محافظة نينوى، واحتل بالذات السهل الشمالي الشرقي من المحافظة، الذي كان يضم قرابة ربع مليون مسيحي من أبناء القومية الآشورية السريانية.
كانت منطقة سهل نينوى تتكون من قوس جغرافي سهلي الطابع محيط بمدينة الموصل، من تخوم ناحية حمام العليل على نهر دجلة جنوب المدينة، صعودا للشمال باتجاه بلدة برده رش الكردية، وكذلك شمالا حتى بلدة باعدرة، والاتجاه غربا نحو بحيرة سد الموصل، وجنوبا نحو قرية دير أم تونا.
كانت مساحة المنطقة تقدر بحوالي 5 آلاف كيلومتر مربع، وتضم بلدات بعشيقة وبحزاني وباعدرة وتل أسقف وتلكيف، وبينها العشرات من القرى والبلدات الأصغر، وكان سكان تلك المنطقة يقدرون بحوالي 300 ألف نسمة، أغلبهم من المسيحيين، مع وجود نسبي لأبناء الشبك “شيعة” والإيزيدين الكرد والعرب السنة.
خلت تلك المنطقة تماما من المسيحيين خلال صيف 2014، وهجر سكانها بشكل جمعي إلى إقليم كردستان العراق، حيث استضافتهم مدن الإقليم والعشرات من المخيمات التي كانت محيطة بالعاصمة أربيل، وسمحت لهم بالانخراط في سوق العمل والمؤسسات الخدمية والتعليمية وقدمت لهم الرعاية الصحية، مثل باقي سكان الإقليم. لكن الدور الأبرز للإقليم في مسألة مسيحيي الموصل كان في الحماية السياسية وليست المعيشية، حسبما يقول الباحث شفان صالح في حديثة مع موقع “سكاي نيوز عربية“: “مجموع الأطراف المنخرطة في الصراع غير المعلن على مستقبل منطقة سهل نينوى، يحولها إلى أكثر بؤر العراق صعوبة. فثمة صراع إقليمي تركي إيراني، يتخذ من الشيعة والسنة غطاء له عبر التنافس الحامي بين الحشد الشعبي الداعم لأبناء قومية الشبك، والتشكيلات العسكرية المؤلفة من الآشوريين والكلدان والعرب السنة شمال مدينة الموصل وفي سهلها الشمالي بالذات.
كذلك ثمة صراع يتعلق بتابعية هذه المنطقة لإقليم كردستان أو الحكومة المركزية، فسهل نينوى يقع في خط التصدع الطويل الذي يشكل المناطق المتنازع عليها بين الإقليم والحكومة المركزية. وأخيرا ثمة صراع مسيحي إسلامي، فالأحزاب السياسية المسيحية الآشورية الكلدانية تتهم نظيرتها العراقية العربية بمحاولة تغيير البنية الديموغرافية للسهل ذي الأغلبية المسيحية.
ضمن هذه الصراعات المستعرة كلها، فإن الإقليم يحاول أن يحمي مسيحيي الموصل من كل أشكال الاستقطاب تلك”. الحركات السياسية المسيحية في الحكومة والبرلمان العراقي المركزي، وبدعم وتشجيع من إقليم كردستان العراق، كانت قد طالبت منذ سنوات بأن تشكل محافظة خاصة بالمسيحيين، أو تضم أغلبيتهم، في كامل تلك الجغرافيا، وأن تضم المسيحيين والإيزيدين والشبك، أي الأقليات الدينية في تلك المنطقة، على أن يكون لهم حرية تقرير مستقبل تابعية هذه المحافظة وعلاقتها مع إقليم كردستان أو الدولة المركزية.
لكن ذلك لم ينفذ بشكل عملي، خصوصا بعد غرق منطقة مدينة الموصل وكامل محافظة نينوى في الصراع المرير بين الحكومات العراقية المتعاقبة بعد عام 2003، وقوى الاعتراض السياسي، التي كان لها نفوذ واسع في محافظة الموصل.
ولا يزال إقليم كردستان العراق يشجع عودة المسيحيين إلى المنطقة التي كانوا يشكلون فيها أغلبية سكانية، من دون أن يجبرهم على ذلك، ويعتبر أن خلق محافظة إدارة تضم أغلبيتهم وبقوات حماية داخلية من أبنائهم، هي أفضل وسيلة للحفاظ على من بقي منهم، مثلهم مثل أبناء الديانة الإيزيدية.
ومن المقرر أن يختم البابا فرانسيس زيارته المتوقعة للعراق بزيارة حي “عين كاوا” في مدينة أربيل، الذي تقول الانطباعات إنه “الحي المسيحي” الوحيد في منطقة الشرق الأوسط الذي تزداد فيه أعداد المسيحيين، وهو استثناء يسعى مسؤولو الإقليم لنقله إلى البابا، وعن طريقه إلى العالم.