عدم استقرار الوضع السياسي في الجزائر … جريمة يجب التَّعَوّد عليها
عدم استقرار الوضع السياسي في الجزائر يؤكد من جملة ما يؤكد عليه، أن الاستثناء هو القاعدة والأصل، وأن على الجميع التعود على ذلك، حتى لو ابْتُلي النظام بأزمة مرضية تقعده عن أداء مهامه ومسؤولياته. فكثرة الدساتير وتعددها بتعدد الأشخاص الذين يحكمون، يعبر عن حالة عدم استقرار مقلق يؤكد شذوذا مقصودا في الحكم، عبر ما هو استثنائي ولا يمكن إطلاقا الدعوة إلى غير هذا الوضع، لأن أي مسعى إلى تحسين الوضع وحلّ أزمته يندرج في الخروج عن الاستثناء. ولا يجوز بأي حال من الأحوال الاستثناء على الاستثناء.
ولعّل هذا الوضع هو الذي استعصى على النظام تجاوزه وحل إشكاله. والوضعية اليوم مع مرض رئيس الدولة، لا بل النظام صار عبئا على نفسه، لا يملك العلاج من تلقائه، ولا يترك للشعب والهيئات المدنية فرصة إصلاحه وإسعافه.
إن الدعوة إلى مرحلة انتقالية، وإلى جمعية سيادية ولجنة حكماء من أجل الخروج من وهدة الاستثناء القاتل، هي دعوة باطلة ومرفوضة من قبل النظام القائم، لأنها تندرج ضمن محاولة تنفيذ الاستثناء على الاستثناء، وهذا ما يتنافى مع عقلية نظام سلطوي، نواته الصلبة حكم العسكر، لم يعد يمت بصلة للحياة السياسية المعاصرة. ومن هنا وجهه الاستثنائي الآخر، أي نظام الجنرالات في زمن المجتمعات المدنية. والحقيقة، أن الحراك الذي لا يكف عن متابعة الوضع الذي صار عليه النظام، هو الذي يكشف، عن إصرار عنيد، على ضرورة الخروج من حكم العسكر، وإرساء معالم وقواعد الدولة المدنية. فهذا الخطاب، لمن يحسن النظر والإصغاء إلى هتافات وشعارات الحراك، هو مرآة بوجهين يوضح من جهة عفن السلطة واستقالتها السياسية والتاريخية، ويكشف من جهة أخرى عن وعي الجماهير التي أرادت أن تتحمل مسؤولية إسعاف الوضع العام، بالصبر على غائلة الظلم الصارخ للنظام المفلس.
استئناف الحراك لمساره وسيرورته يوم 22 فبراير 2021، يبرز أن النزعة السلمية التي التمسها الشعب، أضحت قوة مادية، لا يمكن أن تهزم أو تغتال، في وضع سياسي مثل ما هو عليه الحال نظام الحكم في الجزائر، الذي يترهل ويذوي تحت أنظار العالم كله، وينتظر مآل القاعدة التي تنتهي بها حياة الرؤساء والحكام في الجزائر: الانقلاب، التصفية، والإبعاد، أو الإعلان عن العجز بالخروج من الميدان، أو العجز بالاعتراف غير الرسمي للحاكم المريض المقعد ، أو ترسيم حالة العجز على النحو الذي تم التعامل به مؤخرا مع رئيس مجلس الأمة المحتضر المرشح لخلافة وشيكة لرئاسة الدولة. عاشت الجزائر ردحا طويلا في ظل أنظمة حالة الطوارئ، وحظر التجوال والأحكام العرفية والأوضاع الاستثنائية التي دائما تعطل الحياة العادية. وصار الاستثناء هو العادي، بالقدر الذي يؤجل الديمقراطية، ويبرر غيابها المستمر. فلا ديمقراطية ولا نظام جمهوري مؤسساتي في ظل وضع شاذ غير عادي، فالأصل في ما هو غير عادي في النظام الجزائري أنه نظام عسكري لا يزال يحكم، في سياق تجاوزته كل أمم ودول العالم، ولم تعد الشرعية تستند إلى حكم الجيش ومصالح الأمن وأجهزة الاستخبارات. فالعصر المعاصر في كل الدنيا هو عصر المدن والمجتمعات والتجمعات الكبرى، والمجتمع المدني وثقافة المدينة، والحياة في كنف السلم والاستقرار. وحكم العسكر هو جريمة الجرائم التي لا تخضع للقانون، وتعلو عليه ولا ينظمها الدستور بأحكامه. والشَّاهد على كل ذلك، طريقة القضاء في تعامله مع أباطرة القيادات الأمنية والعسكرية.
جريمة الجرائم هي تلك التي تقع على صعيد مؤسسات الدولة، لأن وقعها مضاعف، لا تنال وتشمل فقط الفرد المسئول عن اقتراف الجرم، بل تطال أيضا المؤسسة كشخصية معنوية، أي وقوع الجريمة على صعيد الفرد والمؤسسة على حد سواء. وهذا ما لم نراعِه عندما نتحدث عن الجرائم التي تنال المؤسسة لأنها تمس صميم السلطة في مدلولها الحيوي، الذي يغتال المجتمع في عمقه. الجرائم التي تقترفها المؤسسات عبر مسَيّرها لا يتم الكشف عنها، لأنها من النوع الذي تثويها وتتستر عليها القوانين وممارسات وتصرفات المسؤولين عليها، في ما يشبه تداول ثقافة الجرم العادي، على اعتبار أنه ليس هناك من يدافع عن المؤسسة وأن المؤسسة ليست ملكا لأحد من الناس، ولسان حال الجميع «ما دخلك في شأن لا يعنيك وليس من ممتلكاته». وعليه، فكل العقارات والمنقولات والأموال العمومية التي لا تخص أحد من الناس مباحة ومستباحة على ما نشاهد ونلاحظ يوميا.
إن الدولة تنطوي على فكرة المؤسسة العمومية، والاغتيال اليومي للمؤسسة هي التي حالت دائما، دون اكتمال شخصية الدولة الاعتبارية، وبقينا نراوح عند التطلع إلى بناء وإرساء معالم وملامح الدولة. ولم نحدد بعد ما هي النقطة التي يجب عندها التصريح بأننا فشلنا في بناء الدولة ذات الشخصية الاعتبارية، التي لا تزوال بزوال الرجال والأحزاب والجماعات واللُّوبيات والبارونات.
حديث السلطة حديث مستهلك، اجتراري لا يتوقف عن الوعود وصناعة خطاب الضعف المقبول والفشل العادي.. إلى حد التكيف مع المرض والموت. ولعنا في الأخير، أو بالأحرى أولا، لا نختم هذا المقال إلا بالإشارة إلى الفكرة المكثفة التي تلخص الوضع القائم في الجزائر، بسبب حكم العسكر. فالدولة ، كما يتداولها جنرالات السُّوء، ليس هي ما يعرف في القاموس المدني. يدركون منها معنى قيادة الأركان Etat-major أي القيادة العظمي التي تَنِد عن كل مؤسسة غير مسلحة ولا تصغي إلا لمن أصبعه على الزناد. فالكلمة تصبح في الترجمة الحرفية: الدولة العظمى، أو الوضع الأسمى الذي يعلو على كل شيء. كما أن فهم الدولة في التداول العسكري والأمني، يحيل إلى حالة حصار، وهي الوضعية التي تفضل قيادة الأركان أن تتعامل معها كوضع عادي يجب أن يدوم ولو بخلق مسوغاته وإضفاء ولو نوع من الشرعية أو المشروعية عليه. ذلك هو الوضع المأساوي الذي فرضته قيادة الأركان الجزائرية بعد ما يناهز الستين سنة من الاستقلال . وجماهير الحراك اليوم، تطالب مجددا بالاستقلال لاستعادة السلطة من براثن قيادة الأركان التي استحوذت وتسلطت على إرادة الشعب، وتَمَاهت مع الدولة إلى حد طَمْس ومَحْو كامل معالمها وخصائصها. ومن هنا، فعلى الحراك القائم اليوم في الجزائر، ويمكن أن يمرر الدرس إلى كل البلاد العربية، أن ترابط بالصبر على ضيم العسكر وحيفهم من ناحية، وهذا لن يتأتى إلا بطول النفس واحتلال الميادين العامة بالمسيرات والحراك السلمي. ومن ناحية أخرى التفكير الجاد في كيفية إخراج السلطة من جِلْدها العسكري الزائف، الذي تتدثر به حماية لنفسها وليس إنقاذا للدولة المدنية.