مزمل ابو القاسم
. ذلك أقل وصف يمكن أن يُطلق على واقعة فقدان نسخة من كل بيانات وحسابات وزارة المالية الاتحادية قبل أيام من الآن.* النسخة المفقودة، وربما المسروقة، تحوي تفاصيل التفاصيل، لإيرادات الدولة ومصروفاتها، وديونها الداخلية والخارجية، ونظام إدارتها المالية، وكل المعلومات الخاصة بالصرف السيادي والأمني والعسكري والتنموي لأكثر من عشر سنوات ماضية.* ببساطة تم فقدان كل المعلومات والبيانات والجداول المالية الخاصة بحكومة جمهورية السودان من داخل وزارة المالية، بعد أن تسلمت لجنة التفكيك (فرع المالية) نسخةً منها، ووضعتها في جهاز كمبيوتر موجود في مكتب تابع لها، قبل أن تعلن فقدانها لها، وتطلب من إدارة التقنية بالوزارة تزويدها بنسخة ثانية منها، بدلاً من الاكتفاء بالاطلاع عليها، لمعرفة محتوياتها، إذا توافرت لديها مسوغات كافية، وأسباباً مقنعة، تدعم ذلك الفضول الغريب.* المصيبة الكبرى تمثلت في عدم تحريك الوزارة لأي إجراء قانوني، لملاحقة مرتكب (أو مرتكبي) تلك الجريمة المنكرة حتى اللحظة، إذ انحصرت كل الإجراءات في بلاغ وحيد، حركته لجنة التفكيك فرع المالية، ليس إلا.* الأوفر إثارةً للعجب أن البلاغ تم تدوينه في نيابة تفكيك التمكين، مع أن البيانات المذكورة كانت في حوزة لجنة التفكيك بالمالية عند فقدانها!!* الطبيعي أن يتم فتح البلاغ في نيابة جرائم المعلوماتية، طالما أن الجريمة المتصلة به تتعلق بفقدان أو سرقة بيانات كمبيوترية، والطبيعي أيضاً أن تبدأ التحقيقات والتحريات بمساءلة رئيس وأعضاء لجنة تفكيك المالية قبل غيرهم، طالما أن البيانات كانت بحوزتهم، قبل فقدانها من جهاز كمبيوتر موجود في مكتب تابع لهم داخل وزارة المالية، ويتم استخدامه بواسطة موظفي اللجنة، دون غيرهم.* فهمنا من إقدام لجنة التفكيك (فرع المالية) على تحريك الإجراءات في نيابة التفكيك أنها ترغب إبعاد التهمة عنها، وحماية أعضائها من التبعات المترتبة على تلك الجريمة الخطيرة، بإلقاء أوزارها على آخرين، لذلك لم نستغرب أن يتم إبعاد البلاغ عن نيابة المعلوماتية (المتخصصة في مكافحة تلك الجرائم والتحقيق فيها)، وتحريكه في قلب دائرة نفوذ لجنة التفكيك المركزية، مثلما لم نستغرب أن تبدأ التحقيقات بمساءلة ثلاثة من موظفي إدارة التقنية في وزارة المالية، بدلاً من استجواب رئيس وأعضاء لجنة التفكيك، الذين أثاروا حفيظة موظفي المالية بإجراءاتهم التعسفية، وتصرفاتهم المستفزة، التي وصلت حد اقتحام مكتب وكيل الوزارة وأخذ مستندات ومخاطبات رسمية، وتمزيقها أمام ناظري مدير مكتب الوكيل.* ذلك بخلاف مطالبتهم بمبالغ طائلة كحوافز ومستحقات شهرية ، وسيطرتهم على عدد مقدر من سيارات الوزارة، وتحميل خزانة المالية قيمة وجبتهم اليومية.* البيانات المفقودة تحوي معلوماتٍ وأرقاماً وجداول وقوائم مفصلة عن الأداء المالي لحكومة السودان منذ العام 2007 وحتى اللحظة، وهي لا تقدر بثمن، ويمكن أن تصبح عرضةً للبيع بمقابلٍ ماليٍ خيالي، طالما أن من يحصل عليها ويطلع على قوائمها سيعرف كل صغيرة وكبيرة عن حسابات الدولة وأسرارها المالية وأوجه صرفها ومصادر مواردها، وكل تفاصيلها المالية، بدقة عالية.* سلعة قيِّمة، يسيل لها لعاب أي جهاز استخبارات، لأي دولة يهمها أن تعرف أسرار وتفاصيل الدخل والإنفاق الحكومي للسودان، وموقفه المالي، وديونه وموارده وطريقة إدارته لتلك الموارد.* لذلك نستغرب جداً صمت مجلس الوزراء ووزارة المالية وديوان المراجع العام والجهات الأمنية عنها، ونهز رؤوسنا عجباً بسبب الاكتفاء ببلاغ وحيد، حركته الجهة المسئولة ابتداءً عن فقدان معلومات بالغة الخطورة والأهمية.* لو حدثت تلك الكارثة في أي دولة أخرى لطارت لها عشرات الرؤوس، ولبادر كل مسئول له علاقة بها بالاستقالة طوعاً قبل أن يطرد من منصبه، ويحال إلى المحاكمة، أما عندما فالأمر عادي، ويمكن أن يمر كأن شيئاً لم يكن.* معلومات بتلك الحساسية العالية ما كان لها أن توضع بين أيادي أفراد يقال عنهم إنهم يعلمون متطوعين، في دولة تحظر حتى على مراجعي ديوان مراجعها العام أن يأخذوا أي بيانات أو مستندات حكومية خارج جدران المكتب المخصص للمراجعة.* بالطبع لا نستغرب أن يحصل أعضاء لجنة التفكيك على أي مستندات أو بيانات تخص أي وزارة أو مؤسسة حكومية، بعد أن تحولت اللجنة إلى دولة داخل دولة، وامتلكت صلاحيات قانونية وتنفيذية وقضائية غير محدودة، تخول لها إقصاء آلاف الموظفين من مناصبهم بلا تحقيق، وتعطيها سلطة إعفاء القضاة والمستشارين القانونيين ووكلاء النيابة، وتمنحها حق الاعتقال لمدد مفتوحة، بخلاف الصلاحيات المتعلقة بنزع ومصادرة الأموال والممتلكات، وتعديل السجلات الخاصة بالعقارات والأسهم وخلافه.* نتوقع من وكيل نيابة تفكيك التمكين أن يحيل هذا البلاغ الخطير إلى النيابة المختصة، بعد إلزام وزارة المالية بالدخول كشاكٍ رئيسي فيه، وننتظر أن يبدأ التحقيق بمن كانت البيانات المفقودة في حوزتهم عند فقدانها، ونطالب مسئولي رئاسة الوزراء ووزارة المالية والنائب العام وجهاز المخابرات الوطني أن يتعاملوا مع هذه القضية الخطيرة بالاهتمام الذي تستحقه، كجريمة (أمن قومي) لم يسبق لنا أن سمعنا بمثلها في البلاد.. مطلقاً.