+18 سياسة .. ما الذي يلزم الساحة الجديدة؟
الكاتب : عماد الدين ميرغني
في المقال السابق الذي كان بعنوان “الإكتفاء بلجان المقاومة خطأ؛ إبتعدوا عن السخط واقتحمو الساحة السياسية” كان الاستعراض للأسباب التي عزلت الشباب عن الساحة السياسية وسبّب في تغييبهم عن الوعي السياسي، الأمر الذي كان أحد أسباب طول عمر النظام السابق.
وفي مواصلة لما كُتِب في سطور المقال السباق؛ لابد من تسليط المزيد من الأضواء على طبيعة الثورة السياسية التي لابد أن يخوضها الشباب في مواصلة لثورة التغيير التي لابد أن تطرأ على كافة المستويات في المنعرج التاريخي الحالي للدولة.
المقال السابق إستعرض التغيير الذي طرأ على المستوى السكاني، ومع التجارة التي مارستها حكومة النظام البائد على مستوى التعليم العالي؛
باستيعاب كم كبير من الطلاب في الجامعات السودانية، تمظهرت فيها تشكيلة جديدة للنسيج الإجتماعي، وبذلك أصبحت الجامعات السودانية حواضن إجتماعية لجيل الشباب الحالي.
ثم بعد ذلك تم تشكيل تلك الحواضن الإجتماعية لهذا الجيل في المرحلة البعد الجامعية، وهي نموذج مجموعات العمل التطوعي. وكانت هذه من الأسباب القوية التي ساهمت في نجاح الإنتفاضة ضد النظام البائد، باتساع رقعة الشباب التي كانت هي الشريحة الفاعلة في هذه الإنتفاضة.
اعتصام القيادة
الشاهد الآخر الذي يثبت هذا الأمر تحديداً؛ هو إعتصام القيادة العامة الذي استمر لشهرين، بالشكل المتماسك الذي خلق انسجاماً كبيراً بين كافة المجموعات الفاعلة داخل الإعتصام، بالإضافة للقاعدة العريضة من الشباب التي كانت حاضرة في هذا الحدث التاريخي.
إن أول اعتبار يجب تسليط الضوء عليه في هذا الأمر تحديداً؛ هو النسيج الإجتماعي لهذه الشريحة. هذا النسيج واضح عليه طابع النسيج الجديد الخارج والمتمرد على النسيج القديم للسودان المتمثل في تفكك الإثنيات المتباعدة فيما بينها.
هذا التمظهر الجديد بدأ منذ سنوات طويلة. والشاهد على هذا الأمر تحدث عنه المفكر الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد في طرحه الذي قدمه في ندوة أبوظبي الشهيرة في عام 2004، وكان مؤمناً بجيل الشباب في الجامعات السودانية، لأنه كان يرى التشكيل الإجتماعي الجديد.
ومن مقولاته المهمة التي أدلى بها في تلك الندوة: “إن عملية إعادة الطرح بطريقة وطنية ديمقراطية تعتمد على الجيل الثالث” وكان يقصد جيل الشباب، والذي أكّد عليه فيما بعد “في يوم 10 مارس خرجت مظاهرات تطالب بوقف الضرب في دارفور.
وأنا خرجت في تلك المظاهرات لأشاهد هذه المطالبة؛ هل يقوم بها أبناء الفور والمساليت والزغاوة أم كل أبناء الجماعات، فوجدت أن هذه المظاهرات خرج بها أبناء الجامعات بما فيهم أبناء الفور والمساليت والزغاوة، فعرفت أن هذا الجيل هو المطلوب”.
ورغم أن مقولته هذه كانت قبل 15 عاماً من قيام ثورة ديسمبر المجيدة، إلا أن المفكر الراحل وضع تلك المعادلة بقراءته العبقرية لحاضر السودان ومستقبله؛ وذلك بعد مجهود جبار قام به في تحليله لتاريخ السودان، في أبرز مؤلفاته والتي كانت بعنوان “السودان المأزق التاريخي وآفاق المستقبل”.
اقتحام الشباب
وما ينقص هذه المعادلة والذي سيظهر عاجلاً أم آجلاً كحتمية للصراع الحالي لتكملة الفترة الإنتقالية والمواصلة في درب الدولة الديمقراطية؛ هو اقتحام الشباب للساحة السياسية؛ سواء عبر الأجسام السياسية؛ أو عبر الضغط الجماهيري ولكن بوعي متراكم وبمستوى عالي قادر على فهم الساحة السياسية بتراكماته المعرفية وأدواته التحليلية.
والمهم في هذه المرحلة هو وجود الطرح السياسي الذي لابد أن ينال الإلتفاف الواسع لهذه الشريحة. هذا الطرح لابد له أن يستوعب الشباب وقضاياه؛ وبالنسيج الإجتماعي الجديد، والذي لابد أن يكون هو النسيج الكامل لهذه الدولة للوصول إلى مرحلة دولة السودان الجديد.
إن أهم الملامح التي لابد تسليط الضوء عليها هي ملامح الحرية بشكلها الحقيقي. صحيح أن تركات النظام البائد ما زالت حاضرة، إلا أن المجريات تشير إلى أن التغيير يطرأ على الكثير من المفاهيم التي تصب في مصلحة الحرية.
فالكتلة التي تستوعب الحرية بمعناها الحقيقي تسير في تزايد سريع بالشكل النوعي المطلوب. هذا السير خطع لظروف سير التطور التي وصلت إليه الدولة الحالية، وهو المعطى الأكثر أهمية الذي لابد من تسليط الضوء عليه في هذه المرحلة.
التكنولوجيا
هذا المعطى من المعادلة هو التكنولوجيا؛ وثورة المعلوماتية المتمثلة في وجود ما تُسمى ب”مواقع التواصل الإجتماعي” والتي كان يسخر منها منسوبي النظام البائد، مثل الدكتاتور عمر البشير نفسه الذي كان يقول أن الحكومة لن تسقطها الواتساب والفيسبوك، فكانت الحقيقي المُرّة أن أقوى أسباب سقوطه هو الواتساب والفيسبوك الذي كان يسخر منه.
ولعل تعطيل مواقع التواصل الإجتماعي من قِبل “الهيئة القومية للإتصالات” أثبت مدى قوة تأثير التكنولوجيا على الشارع السوداني؛ الذي تزايد وعيه بشكل كبير في خدمة الثورة، بسرعة تناقل الأخبار والمعلومات وتحليلاتها.
وما زالت التكنولوجيا تلعب دورها الكبير وتساهم في التأثير على الوعي العام، وستحتم على الغالبية العظمى القبول بالحرية بشكلها الذي سيخلق سلاماً وتعايش بين الجميع عاجلاً أم آجلاً.
ورجوعاً إلى الطرح السياسي المطلوب، فإنه لابد له أن يستوعب هذه المتغيرات بشكلها الحالي ويحفز على مواصلة سير التطور على كافة المستويات. وقد أثبت الزمن أن جميع الأطروحات السياسية للأحزاب التقليدية ما عادت تسمن ولا تُغني من جوع.
فأطروحات الأحزاب السياسية التقليدية في السودان؛ لم تخدم سوى شرائح ضيقة جداً؛ لم تساهم سوى في احتكار الإمتيازات المادية، وتبعاً لذلك باتت الساحة السياسية ساحة صراع أقطاب لم يكن ضحيتها سوى هذا الشعب.
فتلك الأطروحات إما مبنية على الطائفية أو على العقائد السياسية (إسلامي- يساري) وهي بذلك لم تخلق سوى شرائح ضيقة جداً آمنت بها، ومن كفر بها حُوكِم بالإقصاء بقصد أو بغير قصد، وهو ما عانى منه السوداني طيلة 64 عاماً؛ من الإستقلال وحتى الآن.
ولا ينكر أحد أن التفكير في المصالح والإستفادة يطرق الكل، لكن رقعة المصالح والمُستهدفين فيها هو الفارق بين كل حزب سياسي وآخر. هذا ما جعل الجيل الشباب الحالي ساخطاً وناقماً على الأحزاب السياسية السودانية،
وهذا ما يُحتِّم وجود ذلك الحزب الذي يبني مصالحه مع الشعب بشكل مباشر، لا مع اللوبيهات الضيقة والمجتمعات التي في الغالب تأخذ طابع الترابط الإجتماعي المبني على المعرفة الضيقة وعلاقة النسب كما هو الحال في غالبية الأحزاب التقليدية.
الطريق الى المعرفة
هذا يعني وجوب قيام الأحزاب التي تتبنى البرامج أكثر من العقائدية والطائفية، وتتبنى قضايا الحرية بالمضمون الذي يحمي الفرد في المقام الأول والمجتمع بشكل أشمل، فهذا ما يتطلع إليه الشباب السوداني.
وما يتبقى في هذه المعادلة؛ هو إنتفاض الشباب تجاه المعرفة الحقيقية التي تُعزز ثورة التغيير للساحة السياسية، وبناء الأحزاب البرامجية المتبنية للتطور على حساب الأحزاب العقائدية والطائفية، وتغيير طبيعة الممارسة في الساحة السياسية من الصراع والإقصاء إلى التنافس البنّاء.
وهنا السؤال الذي يطرح نفسه؛ هل الأحزاب البرامجية التي تسعى للحرية الحقيقية موجودة أم لا؟، أم على الشباب تشكيل أحزاب جديدة؟، سؤال ليس للإجابة هنا، وإنما إجابته لابد أن يصنعها الشباب أنفسهم لإنجاز ما تبقى من تغيير تبعاً ل ثورة ديسمبر المجيدة الذي هو بالتأكيد منعرج للسودان الجديد.