الحرية والتغيير محتاجة إلى تمحيص وهيكلة
الذى يدور بين مكونات قوى الحرية و التغيير و معتنقى مشروع الاسلام السياسى فى السودان يحتاج الى وقفة تأمل وتمحيص للخروج من المأزق الحرج الذى أدخلت قحت البلاد فيه. فالذى تراه العين المجردة ان البلاد تتجه الى مأساة متسارعة ربما تؤدى الى سقوط الدولة السودانية فى منحدر لا يعلم مداه الا الله.
لهذا ففى البدء لا بد من الوصول الى سلام مستدام و دعوة جادة الى وحدة وطنية للعمل سلميا و ديموقراطيا للتعايش بالحد الادنى لانجاح الفترة الانتقالية و بناء الدولة المدنية ان كانت القوى السياسية مؤمنة بها أساسا. والا فسوف يدفع السودان ثمناً سياسياً و اقتصاديا و أجتماعياً و أمنيا باهظاً تكون نتائجه انهيار الدولة على عمومها.
فالذين تولوا ادارة قحت و اختطفوا الثورة عبر محاصصات لا تعبر عن أوزانهم و أحجامهم الحقيقية مع افتقارهم إلى قدرات و كفآت تؤهلهم كقوة سياسية تنافس ديموقراطيا فى انتخابات حرة, لم يكونوا فى الاساس مؤمنين ولا ملتزمين بشعارات الثورة التى ظلوا يرددونها و يدعون اليها. و انما كانوا يتحينون الفرص للاستيلاء على مفاصل السلطة ليس الا.
فلا بد لنا ان نتسائل! هل استطاعوا و هم فى سدة الحكم من قبل و الان ان يستقطبوا مكونات الشارع السودانى و الجيل الرافض للاسلام السياسى لتقبل ايدولوجيا الماركسية او القومية العربية و البعث العربى او الفكر الجمهورى منهجا لادارة الدولة على أنقاض نظام المؤتمرالوطنى الموروث؟ وهل هنالك أى برنامج او خطاب نظرى يحفز الجماهير للخروج والتضحية من أجلها و تمكنهم من تولى السلطة؟
فشلت قحت فى اعداد برنامج سياسى و اقنصادى يخاطب وجدان الشعب السودانى و يخرج البلاد من القضايا الشائكة و أزماتها فى الاقتصاد و السياسة و ما يتعلق بمعاش الناس رغم استحواذهم التام على السلطة ككل. فأضاعوا سانحة تأريخية لعدم التواصل مع الاسلاميين الذين لم يشوبهم الفساد من دعاة الدولة المدنية و الشرائح المستنيرة سياسيا من الشعب السودانى الذين لا يتفقون ولا يؤيدون الإسلام السياسي الذى يحرض و يهدد و يكفر ضمنيا أو مباشرا و يتبنى العنف و الإرهاب و يروج و يهيج المشاعر العدائية و يمذق النسيج الاجتماعي و يؤجج الحروب و يمذق البلاد وهم الأغلبية من المجتمع السودانى التواقة الى قيم التمدن و قوانينها و دمج و صهر الهويات و الاثنيات و الثقافات المختلفة ضمن اطار الدولة المدنية.
الساحة السياسية السودانية الان مشحونة بالتململ من عداء مضمر من قبل قوى الحرية و التغيير بأحقاد و كراهية للتدين و اقصاء ذوى التوجه الاسلامى عموما وفصلهم من العمل العام و اذدرائهم لظنهم أنهم بذلك يكسبون المزاج العام بدعوى القضاء على الفساد و التمكين. و للاسف هذه الوسائل صبت فى ساحة قوى الثورة المضادة لتتخذها مادة دسمة للايقاع بقحت عموما وفضح سياساتها و تعرية مواقفهم اللا أخلاقية، و هذا التطور أصبح مهددا لنجاح الثورة و ديمومتها.
قيادات اليسار فى قحت فى حاجة ماسة إلى تلاق واضح و صريح و التحاور مع الحداثيين و دعاة العقلانية فى الحركة الاسلامية عبر ما دعا اليه د. الشفيع خضر لرسم طريق ثالث لعلاقة الدولة بالدين و حدود التقارب بينهما من اجل الوطن وهو مطلب ربما يلتف حوله و يتفق على عمومياته الكثيرون من الشعب السودانى رغم التباين في فهم و تعريف معانى الحداثة و التجديد و ما يباعد بينهما من سوء الفهم و التمترس تحت أنفاق الكراهية الرافضة للتطور و التجديد، و الاصرار على السيرعلى حافة الهاوية دون أىى اعتبار.
هذا الاطارالجديد يقتضى اولا هيكلة قحت و صياغة نموذج جديد يتواكب فيه الفكر السياسى مع التوجه العام للشعب السودانى يهتم بتوفير متطلبات المعيشة والبعد عن التشاكس السياسى وفش الغبينة. و لا بد ان يكون قادرا على البعد عن الاعمال الكيدية و التشفى و احلال التمكين بتمكين جديد يهئي لليسار و البعثيين و من والاهم الانفراد بالسلطة. التواصل و السمو و البعد عن الضغائن من اجل الوطن نموزج يدعو للتحاور مع كل الفئات السياسية و الاجتماعية لاستيعاب أهداف الثورة والعصر الحاضر و الاستفادة من اللحظة التاريخية التى توفرت معيناتها داخليا و خارجيا.
ما زالت مسيرة الثورة رضيعة تحتاج الى تفانى القيادات السياسية لتبنى نموذجا جديدا على أسس مستقاة من تجارب أنسانية ساهمت فى الوعى و صون و اعلاء مكانة الإنسان وقيمته في العالم الحديث دون اذدراء و حط لموقع الدين في حياته و سلوكه مثلما حدث فى ماليزيا تحت مهاتير محمد.
فالثورة قادرة على تبنى مشروع للتحرر من القديم العقيم و المألوف بالتواتر و محاربة الموروث الهدام و ما تعارف عليه المجتمع باعتباره اطارا للتدين و الإيمان و ليس هو بذلك و لكنه معيق للتطور و التحضر. كل ذلك سوف يتم بتوفر وسائل المعرفة و المعلومة الحقيقية و الانفتاح الثقافى و انتشار قيم الحرية والعدالة والمساواة و احترام الهويات المختلفة و الاثنية و حقوق الانسان.
فشلت الحركة الاسلامية فى السودان فى الاستفادة من اللحظة التاريخية التى توفرت لها خلال فترة حكمها فى استحداث رؤية عصرية لبرامج اقتصادية و اجتماعية و سياسية و دينية متطورة ترتكز على العقلانية التى لا تتعارض مع الدعوات التى تنتهج الاشتراكية والمادية لتوفير متطلبات الفرد الدنيوية واستبعاد ما وراء الغيب. عقلانية تتجلى فيها مقدرة الفرد المعاصر للتواصل مع الاخر المختلف فى التوجه و العقيدة دون الشعور بالحرج و فقدان الهوية أو الشعور بالدونية. فالارض و ما عليها تهيئت وسائلها لتوفر للإنسان الطعام و الامن و المأوى ليتفرغ بحرية كاملة للتأمل فى الكون و التعرف على القواعد و النظم والقوانين التى تأطر القيم الانسانية النبيلة و يهيئه لفهم الخير و الشر و الواجب و النافل و الحلال و المحرم و النواهى و المباح بالسجية. و ينتقل الفرد بعد ذلك الى مقارنة الشرائع الالهية بما خطه المجتمع من الأحكام و ما يقابلها من قوانين مستقاة من تشريعات علمانية و نظم اجتماعية وثقافية أو قانونية صاغها المجتمع بالسليقة المختلفة بين شعب و غيره في تطوره ليلبى حاجاته المادية و الروحية والتفكير والتمييز بين ما يقيد الفرد والانطلاق لاشباع رغباته المادية و الجسدية و القبول الطوعى بما لا يتعارض مع الشرائع الالهية غير القابلة للتطويع والمحاورة.
العقلانية التى ندعوا لها تتخطى الثنائيات المتشاكسة بين قوى اليسار والتيارات الاسلامية فى السودان و أقعدته عن توفير الاحتياجات المادية للفرد من المأكل و المشرب و الملبس و العلاج و التعليم و الامن و الرفاهية فى هذه الحياة الدنيا أولا قبل الاخرة. ثم زرع التشاكس الشك بين المجتمع السودانى المسلم فى جدوى التدين و الالتزام الشرعى الذى أفسدته بعض الجماعات الطائشة التى ادعت قيادتها للاسلام السياسى فى الثلاثة عقود الماضية عندما لم تتفادى المحظورات الشرعية و القانونية بولوغها فى الفساد و دعوة الاخرين بما لا يلتزمون به.
الانسان المقبل على الهلاك بالجوع تسقط عنه الاوامر و النواهى و تصير جميع المحظورات و المحرمات عنده مباحة و تنتفى عنه الفريضة حتى يسد رمقه و يأمن على نفسه و أهله. هذه النقطة تمثل الجوهر و ألاساس عند العقلانيين و نقطة تلاق بين الدين و العلمانية و من لا دين لهم ايضا يجتمعون عند حرم العقلانية للتعايش مع التنظير الديني بعد اخضاعه للتجربة والاختبار في تقديم الحلول لمشاكل الانسان و توفير احتياجاته الدنيوية المنقذة لحياته قبل الوقوف فى صفوف انتظار الغيب و المصير المجهول.
و لكى نضع الحروف على مواضعها فان استيلاء قوى اليسار على هياكل تجمع قوى الحرية والتغيير و استبعاد القوى المشاركة فى الثورة ذات القوة التراكمية الحقيقية التى ادت الى شل الحكومة و سهلت الانتصار للقوى المدنية و نجاح الحراك السلمى خلق شركاء متشاكسين ما كان لهم ان يصلوا الى هذه الجفوة لوتمت هيكلة قحت فى الاساس على الاوزان الحقيقية للقوى المكونة لها. فالكيد السياسى الذى انتهجته قحت ضد من تعتبرهم مناوئين لليسار يتعارض مع شعارات الثورة الداعية الى الحرية و العدالة و السلام. و التهافت الى تولى المناصب عبر المحاصصة و استبعاد الاخرين عرى قحت وكشف عن وجهها الحقيقى ليتبدى ذلك فى اللقاءات التى حاولت ان تقيمها فى بعض مدن أقاليم السودان و التصريحات العبثية و الانصرافية بعيدا عن مخاطبة الاحتياجات الضرورية للشعب الذى لم يخرج لاستبدال ايديولوجية باخرى.
و المخرج من الازمة الحالية يستدعى الاعتراف بأن الوضع فى السودان لا يحتمل التشاكس و شيطنة الاخرين و التشفى و الكيد السياسى. و هذا بالضرورة يستدعى اعادة هيكلة قحت على أسس جديدة تراعى فيها التمثيل الحقيقى و الكفاءات حسب الاوزان الحقيقية للقوى المشاركة فى الثورة لبناء دولة تلتزم بالعقلانية فى التحاور بين القوى السياسية والمجتمعية ايا كانت للتوافق على برنامج اقتصادى و سياسى عاجل عبر خطة زمنية جديدة لا تتعدى الفترة الانتقالية تراعى فيها المستجدات و الاخطار المحيطة بالمستقبل السياسى للبلاد. و الا فعلى السودان السلام.
د. الطاهر الفكى