أهم الأخبار

أوروبا وإعادة تعريف اللجوء السوري: من الحماية إلى الترحيل المقنّع

لم يعد الجدل الأوروبي حول اللاجئين السوريين يدور حول كيفية حمايتهم، بل حول الطريقة الأنسب للتخلص من وجودهم. ففي أعقاب التحولات السياسية التي شهدتها سوريا أواخر عام 2024، بدأت عواصم أوروبية عديدة بإعادة صياغة خطابها حول اللجوء، مستبدلة مفاهيم “الخطر” و”الاضطهاد” بلغة جديدة تقوم على “الاستقرار النسبي” و”المسؤولية الفردية” و”العودة الطوعية”. غير أن هذه اللغة، عند اختبارها على أرض الواقع، تكشف عن انتقال مقلق من سياسات الحماية إلى منظومة ضغط ممنهجة، تهدف في جوهرها إلى الإعادة القسرية، ولو بأدوات ناعمة.

نهاية مرحلة الاستثناء السوري

لسنوات، حظي السوريون في أوروبا بوضع قانوني خاص، بوصفهم الفئة الأكثر وضوحًا من حيث مخاطر العودة. لكن هذا الاستثناء السوري بدأ يتآكل سريعًا. فقد سارعت دول مثل الدنمارك والسويد والنمسا وألمانيا إلى تجميد أو مراجعة ملفات اللجوء، في خطوة تعكس تحوّلًا سياسيًا أكثر مما تعكس تقييمًا موضوعيًا للأوضاع داخل سوريا.

ورغم إقرار مؤسسات أوروبية رسمية بأن الوضع الأمني في البلاد لا يزال هشًا، وأن العنف العشوائي والانفلات المسلح مستمران في مناطق واسعة، إلا أن هذا لم يمنع بعض الدول من تصنيف سوريا، كليًا أو جزئيًا، بلدًا آمنًا. هذا التصنيف لم يكن تقنيًا أو قانونيًا بحتًا، بل جاء استجابة مباشرة لضغوط داخلية تتعلق بصعود اليمين، وتنامي الخطاب المعادي للهجرة، وتحول اللاجئين إلى عبء انتخابي.

فقد أعلنت وزارة الداخلية الألمانية بأن المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين، أنه ومع بدء مراجعة واسعة لقرارات لجوء تعود لآلاف السوريين، تم سحب الحماية أو الإقامة من 552 شخصاً. وقالت صحيفة “بيلد” إن التدقيق يتركز على فئات محددة، أبرزها مرتكبو الجرائم، والأشخاص المصنفون كمصدر خطر أمني، إضافة إلى من دخلوا سوريا مؤقتا خلال الفترة الماضية

العودة الطوعية كأداة ضغط

في الخطاب الرسمي، لا تتحدث الحكومات الأوروبية عن الترحيل، بل عن المساعدة في العودة. إلا أن الواقع يكشف صورة مختلفة تمامًا. ففي عدة دول، يُوضع اللاجئون المرفوضون أمام معادلة قاسية، القبول بالعودة طوعًا مقابل الإفراج أو الحصول على دعم مالي محدود، أو مواجهة الاحتجاز طويل الأمد، والحرمان من الخدمات، والملاحقة القانونية.

هذا النوع من الاختيار لا يفي بأي تعريف حقيقي للطوعية. فالقرار يُتخذ في سياق تهديدي، داخل مراكز احتجاز، وتحت ضغط نفسي واقتصادي شديد. وتصف منظمات حقوقية هذه الآليات بأنها إعادة قسرية مقنّعة، تهدف إلى الالتفاف على الالتزامات القانونية الدولية، لا سيما مبدأ عدم الإعادة القسرية.

وضمن هذا الإطار، يقوم موظفو وكالة حرس الحدود الأوروبية (فرونتكس) بتمويل من المفوضية الأوروبية بإجراء مئات الجلسات “الإرشادية” مع المحتجزين لتشجيعهم على “الاختيار” الطوعي للعودة. وتصف منظمات حقوقية هذه الجلسات، في ظروف الاحتجاز الصعبة، بأنها شكل من أشكال “الإكراه النفسي”. وبما أن العملية برمتها تُصنف رسمياً على أنها “طوعية”، فإنها تتجنب أي رقابة إلزامية من قبل المؤسسات الوطنية المعنية بحقوق الإنسان. وقد وردت تقارير عن استخدام العنف الجسدي ضد من يحاولون المقاومة عند تنفيذ الإعادة.

وفي هذا السياق، كشف تحقيق صحفي نشره موقع Balkan Insight في تشرين الأول/أكتوبر 2025 عن اتهامات خطيرة لبلغاريا بممارسة الإكراه بحق لاجئين سوريين لإجبارهم على القبول بالعودة الطوعية. وبحسب التحقيق، فإن عشرات السوريين وُضعوا في مراكز احتجاز لفترات طويلة، ثم عُرض عليهم خياران فقط: التوقيع على وثائق “موافقة” للعودة إلى سوريا، أو الاستمرار في الاحتجاز لأشهر قد تمتد إلى عام ونصف. وأشار التقرير إلى أن جلسات “الإرشاد” التي تُنظم داخل مراكز الاحتجاز، بمشاركة موظفين مرتبطين ببرامج ممولة من الاتحاد الأوروبي، تُجرى في ظروف تُقوّض أي معنى حقيقي للموافقة الحرة، ما دفع منظمات حقوقية إلى اعتبار هذه العمليات ترحيلاً قسريًا مقنّعًا يهدف إلى الالتفاف على مبدأ عدم الإعادة القسرية المنصوص عليه في القانون الدولي.

وحتى في دول مثل ألمانيا، التي تحاول الحفاظ على صورة قانونية أكثر تماسكًا، يجري استخدام أدوات ضغط غير مباشرة، ففي ألمانيا، أعلنت السلطات أن السوريين الذين يسافرون لزيارة وطنهم يخاطرون بفقدان “وضع الحماية” الخاص بهم، إلا في حالات ضيقة جداً كزيارة قريب يحتضر، مما يقطع أي أمل بزيارة استطلاعية لمعاينة الواقع قبل اتخاذ قرار العودة.

وبموازاة ذلك، قدمت عدة دول، بدرجات متفاوتة، حزماً مالية وإجرائية لتشجيع العودة “الطوعية”، مثل المساعدة النقدية المحدودة وتسهيل إجراءات السفر. فألمانيا مثلاً تدفع للعائدين مبلغاً مالياً كمساعدة للعودة والاستقرار في بلدانهم، قد يصل إلى 4000 يورو للعائلة. حيث تدفع بدل سفر قدره 200 يورو للبالغين و100 يورو للأطفال والشباب، وتتحمل التكاليف الطبية عند الضرورة بقيمة تصل إلى 2000 يورو.

فجوة بين الخطاب الأوروبي والواقع داخل سوريا

في الوقت الذي تروج فيه عدة دول أوروبية لسردية مفادها أن سوريا باتت قادرة على استقبال العائدين، تشير تقارير إنسانية واقتصادية إلى واقع مختلف. إذ لا تزال البلاد تعاني من أزمة إنسانية واسعة النطاق، تتجلى في تدهور كبير للبنية التحتية، وارتفاع معدلات الفقر والبطالة، إلى جانب أزمة سكن حادة، خاصة في المناطق المتضررة من النزاع. كما يواجه عدد كبير من اللاجئين المحتمل عودتهم صعوبات تتعلق بفقدان الوثائق الرسمية وحقوق الملكية، ما يعقّد فرص إعادة الاستقرار.

وتزامنًا مع ذلك، تشهد مناطق مختلفة من سوريا حالة من عدم الاستقرار الأمني، تترافق مع انتشار السلاح وارتفاع معدلات الجريمة، ووفق تقارير حقوقية، فإن غياب آليات العدالة الانتقالية والمساءلة يزيد من المخاوف المرتبطة بعودة اللاجئين، التي لم تعد تُصنّف كتحدٍ اقتصادي فحسب، بل كخيار محفوف بمخاطر أمنية واجتماعية.

دعم مشروط مقابل عودة اللاجئين

بالتوازي مع هذا التحول في الخطاب، تعتمد بعض الدول الأوروبية بشكل متزايد على آلية ربط المساعدات المالية والإنسانية بتعاون الدول المعنية في استقبال مواطنيها العائدين. وتشمل هذه المقاربة وعودًا بتمويل مشاريع إعادة إعمار ودعم إنساني، تُطرح في إطار تفاوضي مرتبط بتسهيل عمليات العودة، وفق ما أفادت به تقارير بحثية وحقوقية.

وتشير تجارب سابقة إلى أن هذا النوع من الترتيبات غالبًا ما يفتقر إلى ضمانات تنفيذ طويلة الأمد، خصوصًا وأنها توقّع مع حكومة انتقالية، فهي عقود محدودة وليست صفقات طويلة الأمد، إذ تتراجع الالتزامات المعلنة بعد تحقيق الهدف الأساسي المتمثل في تقليص أعداد اللاجئين في الدول الأوروبية. ومع تحوّل الاهتمام السياسي والإعلامي إلى أزمات أخرى، يُعاد توجيه التمويل المخصص، ما يترك العائدين في بيئات تعاني أصلًا من محدودية الموارد وضعف القدرة على إعادة دمجهم.

إدارة الأزمة بدل حلّها

ما يحدث اليوم ليس حلًا لأزمة اللجوء السوري، بل إعادة تصدير لها. فبدل معالجة جذور المشكلة، تختار أوروبا إدارة تداعياتها بأدوات بيروقراطية، تُحوّل البشر إلى أرقام، والحقوق إلى استثناءات قابلة للتعليق.

في النهاية، يجد السوري نفسه أمام خسارة مزدوجة: فقدان الأمان النسبي الذي وفره اللجوء، والعودة إلى وطن لم يتعافَ بعد، لكن دون أن يبقى ملفه حاضرًا على الأجندة الدولية. هكذا، لا تنتهي المأساة، بل تتغير جغرافيتها فقط، ويُعاد تعريفها بلغة أكثر برودة، وأقل إنسانية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى
Show Buttons
Hide Buttons