توترات مسار الشرق السوداني… ما وراء الضجيج
توترات مسار الشرق السوداني… ما وراء الضجيج
هل هناك أسباب أخرى يخفيها مجلس نظارات البجا خلف ذلك الصخب العالي؟
ثمة لغط كثير في الفضاء العام يدور حول مسار الشرق (أحد بروتوكولات اتفاق سلام جوبا 2020)، وعن مدى استحقاق تمثيله لأهل الشرق سياسياً.
وغطى على ذلك اللغط غبار كثيف وضجيج في ردود فعل ملأت الدنيا وشغلت الناس عبر احتجاج ما سمي بالمجلس الأعلى لنظارات البجا، بقيادة الناظر ترك، الذي انبرى مجلسه بلا هوادة لرفض المسار والتنديد به.
لم تكن هناك أدنى سوية عقلانية للنظر إلى اتفاق مسار الشرق عبر نقاش سياسي مفتوح ليعرف الناس في شرق السودان، وفي البلاد بصفة عامة، طبيعة هذا الاتفاق، وما مواطن النقد التي يمكن أن تؤخذ عليه، بل جاءت الرفض من دون إعطاء فرصة لقادة الحزبين الموقعين على المسار لشرح الاتفاق.
للأسف لم يحدث ذلك أبداً، لأن طبيعة الاحتجاج التي قادها مجلس الناظر ترك في رفضه للمسار لم تكن طريقة تتصل بالسياسة، وإنما كانت طريقة تم فيها توظيف حماس القبائل والتهييج العنصري والشحن.
شر مستطير
تم تصوير المسار لكثير من عامة الناس في الشرق كما لو أنه شر مستطير، وتضمن ذلك الحراك الرافض للمسار في سلوك أنصار الناظر ترك، تحفيراً على خطاب كراهية وأجج شعارات للرفض بين عامة البداويت من دون أي تفسير سياسي لذلك الرفض، الأمر الذي جعل كثيرين غير مدركين لما ينطوي عليه اتفاق مسار شرق السودان.
إذا كان قادة مجلس ترك يهددون قادة المسار باستمرار بمنعهم من إقامة ندوات في مدن شرق السودان عبر تصعيد ينطوي على إرهاب ووعد بسفك دماء، فلا شك أن خانة النقاش السياسي حول الفرص التي تتيح للناس فهم اتفاق مسار الشرق ستكون أبعد زاوية للنظر في طبيعة ذلك المسار، في الوقت ذاته الذي أحجم فيه قادة المسار عن إقامة ندوات عامة خشية أن يسيل دم مواطن بريء ومن ثم قبلوا بتعليقه.
هناك فهم عام بين الناس أن حزبي المسار لا يمثلان غالبية أهل شرق السودان، وهما بالفعل كذلك، لأن السلطة والثروة التي منحت لهما هي 30 في المئة من بين 70 في المئة ستمنح لقوى سياسية أخرى في الشرق عرض لمجلس ترك 50 في المئة منها في السر، لكنه رفض بالتالي فإن التسويق لرفض المسار وإدانته كما لو أنه شر مطلق أصبح الرواية السائدة في تصورات كثيرين.
لذا من المهم اليوم أن نتأمل بهدوء الملابسات التي اكتنفت استحقاق حزبي مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة سعيد، والجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة بقيادة خالد شاويش لتمثيلهما جزءاً من أهل الشرق كحزبين من أحزابه في اتفاق جوبا للسلام، وما إذا كان ذلك الاستحقاق فائض سلطة وثروة منحتهما الجبهة الثورية للحزبين، كما يظن بعضهم، أم أن من المهم فحص ما إذا كان رفض المجلس الأعلى لنظارات البجا للمسار هو فقط لأن قادته لا يمثلون أهل الشرق؟ أم أن هناك أسباباً أخرى يخفيها المجلس خلف ذلك الضجيج العالي في رفض المسار؟
اتفاق أسمرا 2006
لنعد قليلاً إلى الوراء، فمنذ أن وقعت جبهة الشرق على اتفاق أسمرا عام 2006 مع نظام الإنقاذ، إذ كان موسى محمد أحمد آنذاك هو رئيس الجبهة ورئيس أكبر حزب في جبهة الشرق “مؤتمر البجا”، لنر كيف تبدلت الأحوال.
لقد كان الجميع في شرق السودان راضين ببنود اتفاق أسمرا، فما الذي جد اليوم ليعترض المجلس الأعلى لنظارات البجا على اتفاق جوبا، الذي جاء في ظروف أفضل بكثير من ملابسات وظروف اتفاق أسمرا، الذي لم تنفذ حكومة الإنقاذ حتى عام 2012 إلا نحو 25 في المئة من بنوده بعد مضي ست سنوات من توقيعه؟ ومع ذلك بقي موسى محمد أحمد في منصب مساعد رئيس الجمهورية (عمر البشير) حتى يوم سقوطه في 11/4/2019.
وغني عن القول إن وضعاً مأساوياً كالذي أصبح عليه موسى محمد أحمد بعد الثورة، كان لا شك سيحرق مستقبله السياسي، لذلك تغير رهان موسى محمد أحمد، صاحب فكرة تأسيس المجلس الأعلى لنظارات البجا، بحثاً عن عودة أخرى للسياسة عبر استغلال القبيلة، بعد أن هيأ الإخوان المسلمون بتسييسهم للإدارة الأهلية مسرحاً لخراب المجال العام منذ 30 عاماً.
لذلك أدرك موسى محمد أحمد أن الذين يتعين عليه أن يحتمي بهم في الطريق إلى إعادة تسويقه سياسياً مرة أخرى بعد الثورة، هم فقط أولئك الذين لا يدركون أبداً ما تعنيه الثورة من تغيير، الذين لا يمتلكون استعداداً مختلفاً لوعي يفك الارتباط بين فهمهم للفرد من حيث كونه منتمياً لقبيلتهم، وبين كونه شخصاً فاسداً سياسياً، لكن قبيلته لن تؤاخذه بجريرة فساد أفعاله السياسية ما دام هو فرداً منها، ورمز سياسي للقبيلة يتعين على نظام القرابة والعصبية فيها أن يحميه ظالماً كان أو مظلوماً.
هكذا، وبحسب رواية أسامة سعيد رئيس مؤتمر البجا المعارض، ما إن أدركت قيادات في المؤتمر عام 2012 عقب مؤتمره الجامع بالخرطوم، أنه لم يتحقق سوى ما نسبته 25 في المئة من بنود اتفاق أسمرا من طرف نظام البشير، بعد مضي ست سنوات من توقيعها، حتى قررت تلك القيادات من أمثال المرحوم صلاح باركوين وآخرين، أنه قد حان الوقت لأن يكونوا خارج أي التزام باتفاق أسمرا مع الحكومة، فأجروا مشاورات وتفاهمات في العام ذاته مع الجبهة الثورية.
وفي عام 2014 تم التوافق مع الجبهة الثورية خلال اجتماع في برلين وعبر بيان مشترك، وقع عليه موسى محمد أحمد عن مؤتمر البجا باعتباره رئيساً للحزب، لكن موسى انسحب بعد ذلك تحت إغراء وظيفته كمساعد رئيس الجمهورية (عمر البشير) عندما خضع لضغوط حزب المؤتمر الوطني الحاكم وتخلى عن الالتزام بالجبهة الثورية، فيما بقي أسامة سعيد وآخرون على اتفاقهم مع الجبهة الثورية.
ولما تمت إطاحة البشير وانتصرت الثورة في الـ11 من أبريل (نيسان) 2019 كان موسى محمد أحمد لا يزال في منصبه مساعداً للبشير بالقصر الجمهوري.
مفاوضات جوبا
حين بدأت حكومة الثورة بقيادة حمدوك عام 2019 مفاوضات جوبا مع الجبهة الثورية كان حزب مؤتمر البجا المعارض بقيادة أسامة سعيد إلى جانب الجبهة الشعبية المتحدة للتحرير والعدالة التي كان في قيادتها الأمين داؤود، وهو أحد الحزبين الذين وقعا على اتفاق جوبا، فهل يمكن القول وفق السياق الذي شرحناه آنفاً، إنه ليس هناك استحقاق لمؤتمر البجا المعارض الذي يقوده أسامة سعيد في أن يكون أحد الأحزاب الممثلة لشرق السودان في اتفاق جوبا للسلام؟ اللهم إلا إذا انطوى رفض أسامة سعيد وبقية ممثلي المسار في اتفاق جوبا على رفض عنصري في خطاب المجلس الأعلى لنظارات البجا، الذي التف حول موسى محمد أحمد على الرغم من أن الأخير أصبح كرتاً محروقاً في المجال السياسي بعد الثورة.
وتلك للأسف هي الحقيقة العارية في خلفية رفض قادة مجلس الناظر ترك للمسار، ولتبرير هذا الموقف العنصري كان المجلس الأعلى لنظارات البجا في حاجة إلى تهمتين يدمغ بهما قادة المسار لتسويغ خطابه الشعبوي العنصري، الأولى زعم أن قادة المسار ليسوا من البجا، والثانية إنكار سودانيتهم، إذ ادعوا أن خالد شاويش إريتري وأسامة سعيد مصري مع أن كلاً منها ينتمي إلى قبائل بجاوية في الشرق.
وعلى الرغم من ذلك الوضع المأساوي الذي أصبح عليه موسى محمد أحمد، فإن أسامة سعيد بادره بنوايا طيبة، فبعد أن وقع أسامة على اتفاق إعلان المبادئ في سبتمبر (أيلول) 2019، وذلك قبل تكوين المجلس الأعلى لنظارات البجا، طلب من موسى محمد أحمد أن يشارك في المفاوضات ضمن مظلة حزب مؤتمر البجا المعارض، ويتقدم بمطالبه فشكره موسى وطلب منه مهلة لثلاثة أيام.
شروط غريبة
بعدها طرح موسى محمد أحمد على أسامة سعيد شروطاً غريبة هي، أولاً نقل المفاوضات من جوبا إلى أسمرا، ثانياً أن تكون قاعدة التفاوض هي بنود اتفاق أسمرا، ثالثاً أن يقود التفاوض الفريق نفسه الذي قاد الأطراف في مفاوضات أسمرا، وبالطبع لم يوافق أسامة سعيد على شروط كهذه تعكس انفصالاً عن الواقع الجديد في سودان ما بعد الثورة.
ثم بعد ذلك وأثناء مفاوضات جوبا، التي استمرت لأكثر من سنة، جاء موسى محمد أحمد مرة أخرى، ومعه الناظر ترك، وبوساطة حميدتي اجتمعا مرة أخرى، معهما مصغياً لمطالبهم بالتحديد، فقال له الناظر ترك نحن نريد أن نشارك في مفاوضات جوبا، لكننا قبل المشاركة أمهلنا أسبوعين لكي نعقد مؤتمراً جامعاً لأهل الشرق برعاية الحكومة يتم فيه تضمين جميع مطالبنا، فوافق أسامة سعيد على تأجيل المفاوضات ثلاثة أسابيع بدلاً من أسبوعين، وأخبر ترك بأنه كان عرض على موسى الدعوة ذاتها.
ولكن ما أن عقدت الحكومة مؤتمر أهل الشرق في العام 2019 بالخرطوم وشاركت كل أطراف شرق السودان بأوراق تم تضمينها بعد ذلك في بنود اتفاق الشرق، حتى رفض موسى محمد أحمد والناظر ترك المشاركة في المؤتمر، لأنهما كانا يريدان مؤتمراً يقتصر على مكون “البداويت” (أحد مكوني البجا) فقط.
بهذا السرد التفصيلي سيتبين أن المسار بالنسبة لمؤتمر البجا المعارض لم يكن فائض عطية لمن لم يحمل سلاحاً، فتلك الدعوى التي ظل يستشهد بها أنصار ترك في رفضهم للمسار بالقول إن منطقة شرق السودان لن تستحق إفراد مسار لأنها لم تشهد حرباً بعد اتفاق الشرق عام 2006 نسوا أن آثاراً عالقة لحرب عام 1997 في منطقة جنوب طوكر وضواحي كسلا كانت لا تزال حية وشاهدة، إذ تم تهجير الأهالي بالآلاف من مناطقهم وظلوا لأكثر من 20 عاماً من دون أن تتم إعادة توطينهم أو نزع الألغام التي زرعت في ديارهم.
تعنت وأنانية
هكذا وفي ضوء هذه الملابسات ينكشف بوضوح أن تعنتاً وأنانية كانا وراء الشلل الإرادي الذي تسبب فيه موسى محمد أحمد والناظر محمد الأمين ترك بعزل نفسيهما وأتباعهما من المشاركة في مفاوضات جوبا.
وكما سيتضح في ضوء الملابسات ذاتها أن تأسيس “المجلس الأعلى لنظارات البجا” كانت غايته إسقاط اتفاق المسار، ليس لأنهم لم تتم دعوتهم للمشاركة في مفاوضات جوبا، وإنما لأنهم أرادوا استحواذاً لنصيب أكبر تحت قيادة موسى محمد أحمد في اتفاق جوبا، وهو ما كان مستحيلاً.
ما كان لمسار الشرق أن يتسبب في سفك الدماء كما يردد كثيرون، فحين أراد الأمين داؤود إقامة ندوة سلمية في بورتسودان نوفمبر (تشرين الثاني) 2019، كما أقامها في كسلا بكل سلمية، للتبشير بالمسار على الرغم من أننا نعتقد أن الأمين داؤود كان ينبغي له تأجيل زيارته تلك بناء على قرار اتخذه والي البحر الأحمر آنذاك بتأجيل الندوة نظراً إلى اقتتال أهلي كانت المدينة قد خرجت منه بين البني عامر والنوبة، فإن ذلك كله لا يبرر الهجوم بالسلاح الأبيض على ندوته السلمية من طرف أفراد من البداويت محرضين وبتساهل من شرطة مدينة بورتسودان التي تواطأت بعدم القيام بواجبها في حماية الندوة، وبعلم من مدير الشرطة آنذاك.
وكان ذلك الهجوم على ندوة الأمين داؤود ببورتسودان نتيجة لتهديدات أطلقها قيادي لحزب من أحزاب مؤتمر البجا، توعد فيها بممارسة العنف ضد الأمين داؤود في بورتسودان، داعياً إلى إلغاء الندوة عبر مقطع فيديو على اليوتيوب قال من ضمن ما قال فيه “إننا لا نقبل زيارة هذا الشخص، يقصد الأمين داؤود، ولو أذن له الوالي بالزيارة أو مدير الشرطة”، وذلك قبل وصول الأمين داؤود إلى بورتسودان بأيام، ورداً على تصريح للأمين داؤود فور مجيئه للخرطوم من جوبا قال فيه ما فهم منه بعضهم أنه قصد أن البجا تعدادهم أقلية في شرق السودان.
وهكذا فلو كان قد تم السماح للندوة أن تنتهي بسلام، كما صار الأمر في كسلا، لما حدثت تلك العواقب التي راح ضحيتها بعض أبناء البداويت في ذلك اليوم نتيجة لاعتدائهم على المشاركين في الندوة التي أقيمت في منطقة محايدة.
تم بعد ذلك عقد ما سمي “القلد” بين الطرفين، والقلد عرف قبائلي بجاوي لوقف العدائيات يتم عادة في البادية عند اختلاف قبائل البجا حول صراع الماء والكلا وما ينجم عنه من قتال، ولا علاقة للقلد بأي صراع سياسي في مدينة كبورتسودان، والحكومة التي وافقت على القلد، آنذاك اضطرت للقبول به حرصاً منها على تسكين الأوضاع ونزع فتيل الأزمة وليس بالضرورة اعترافاً منها ببنوده التي تضمنت نقاطاً لا يمكن أن تقبل بها حكومة تحترم دستورها وحقوق مواطنيها، مثل ترسيم الحدود بين القبائل ورفض المسار ومراجعة الهوية الوطنية لبني عامر والحباب.
وهي البنود التي قام عليها في ما بعد ما سمي مقررات مؤتمر سنكات، بعد قيام ما سمي بالمجلس الأعلى لنظارات البجا، الذي انقسم اليوم إلى قسمين، وكانت أجندته بعد ذلك أجندة عنصرية الهدف منها إلغاء مسار شرق السودان لا لأي أسباب سياسية وجيهة، وإنما لأسباب عنصرية لا يمكن قبولها من طرف الدولة