في بعض اللحظات قد يكون الذهن في حالة شرود بعيداً في أمور كثيرة للغاية يفكر فيها الشخص التائه في ظل تعقد الأمور والمشاكل التي لا حصر لها، هذا هو الحال الذي يغني عن السؤال في المشهد الراهن.
وقتها قد يتبادر إلى الذهن بعض المواقف المشابهة، ربما تحمل في طياتها طابعاً كوميديا، مثل خطاب قائد قوات الدعم السريع محمد حمدان دقلو، عندما قال: “نحن هدفنا”
ثم سكت لحظه، واستكمل قائلاً: “ما عندنا هدف ذاتو”، فلقد ظهرت على وجهه ملامح الضغوطات الكبيرة التي كان يعيشها؛ وقتما كانت المستجدات في حالة الشد والحذب بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري قُبيل العودة للتفاوض لتشكيل الحكومة الإنتقالية.
هل نسير بلا هدف الآن؟
ربما يبدو من الواضح من الشهد الراهن، إزدحام في كل مكان رغم الحظر المعلن، صفوف في المخابز، صفوف في محطات الوقود، صفوف في أماكن توزيع غاز الطبع، صفوف أمام أقسام الشرطة للحصول على تصريح النقل.
والشعب السوداني يسخط من صعوبة المعيشة وهذه الضائقة التي بلغت بنا جميعاً تلك الدرجة التي بات يصعب فيها تحمل كل هذه الصعوبات.
وهو اللغز المحير الذي يحتاج إلى جهد ومثابرة في صناعة الحلول وتطبيقها على أرض الواقع للخروج من هذه الضائقة.
فحتماً المشهد يشير إلى أن الحكومة الإنتقالية في كل يوم تخفق بدل المرة ألف مرة، الأمر الذي بدأ تتعالى فيه بعض الأصوات الساخطة ضد السيد رئيس الوزراء؛ الدكتور عبدالله حمدوك،
ووزير الصحة أكرم علي التوم الذي نال هو الآخر نصيبه من السخط تجاه ما يحدث في مواجهة جائحة الكورونا.
الأمر في ظاهره يدعو للسخط تجاه الحكومة الإنتقالية، صحيح أن هذه الحكومة لها أخطاءها في إدارة الدولة، وبطبيعة الحال فإن الأخطاء واردة والعالم ليس مثالياً، هذا ما يجب أن نفهمه جميعاً.
لكن ما يثير الإستغراب بشكل حقيقي، هو المكابرة في تفهم حقيقة هذه الدولة المنهارة من كل حدبٍ وصوب، وأن أصعب مرحلة هي المرحلة الحالية،
إعادة صياغة
إذ أن هذه المرحلة تشهد العمل على تغيير جذري لإعادة صياغة هذه الدولة في كل أركانها الأساسية، وهذه المرحلة تحتّم على الجميع الدخول في خِضم صراع قاسي ضد مكونات الدولة الشمولية الدكتاتورية التي احتكرت كل شيء.
وهذا الصراع ليس بالصراع السهل، إذ أن صعوبة الصراع تكمن في الإحلال والإبدال، خصوصاً فيما يتعلق بالسوق المتحكم في الأساسيات التي لابد أن تكون متوفرة لهذا الشعب،
والكثير من أفراد جيل الشباب كتبوا عن هذه المعضلة بعد سقوط النظام وقتما كان الشعب معتصماً في محيط القيادة العامة، ومواقع التواصل الإجتماعي تشهد على المنشورات التي تتحدث عن هذه الأزمة.
مظاهرات النظام البائد
وما يثير الإستغراب بشكل أكبر، هو خروج شريحة صغيرة من الموالين للنظام السابق، مطالبين بسقوط الحكومة الحالية، متاجرين بمعاناة الشعب، عِلماً بأن الأزمة الحالية هي من صنيعة نفس نظام العهد البائد،
مستغلين بذلك ثغرات وأخطاء لتحالف الحرية والتغيير لتمرير أجندتهم والسعي نحو عودة منظومة العهد البائد.
ويالبؤس هؤلاء، ففي بعض المدن مثل شندي وبورتسودان، ردت عليهم حشود من المواطنين بهتاف “الجوع الجوع ولا الكيزان” في مشهد يعكس فشل مساعي هؤلاء لإسقاط الحكومة الإنتقالية من سِدة الحكم.
والبؤس في نفسه يكمن في أن هؤلاء لا يملكون أي رؤية سوى عودة المنظومة بذات الغطاء العسكري، عِلماً بأن المؤسسة العسكرية لها مشاكلها التي لا حصر لها شأنها شأن المشاكل التي تعاني منها جميع مؤسسات الدولة،
كما أن الوضع المنهار لا يسمح بعودة المنظومة العسكرية وتمكّنها من إدارة الدولة.
وإضافةً إلى ذلك، فإن الشعب السوداني الذي ثار ضد النظام البائد؛ لم يستمر إعتصامه لمدة شهرين متتاليين من فراغ، وإنما كانت لسلسلة مطالب واضحة، أهمها هو تولي الفترة الإنتقالية حكومة مدنية،
إضافةً إلى السلام الشامل، والإصلاح الإقتصادي ومحاربة الفساد ومحاكمة رموز النظام البائد.
وهذا يعني أن عودة الحكم الدكتاتوري سيصطدم مع إرادة الشعب بشكل مباشر، ولولا جائحة الكورونا؛ لكن الرد القاسي سيُفحِم تلك الشريحة بخروج الملايين في شوارع الخرطوم؛
مثل تلك الملايين التي احتفلت بمرور عام على انطلاق ثورة ديسمبر المجيدة في التاسع عشر من ديسمبر العام الماضي، وهي لا تقل أن مليونية 30 يونيو العام الماضي.
الحقيقة
والحقيقة تقول؛ أنه وإن كانت هنالك فئات من الشعب ساخطة على أخطاء الحكومة في إدارتها للدولة، فإن الغلبة الكبيرة والسواد الأعظم من هذا الشعب لا يريد سوى مواصلة الحكومة الحالية في هذه الفترة،
ويعلم جميعهم أن الخيارات الأخرى ستؤدي بالدولة إلى مزيد من الخراب والدمار التي ستحول هذه البقعة الجغرافية إلى مجرد أرض قاحلة وجافة منعدمة من مظاهر الحياة.
وهذا يعني أن السخط وحده في المرحلة الحالية ليس بالأمر الذي سيجلب الحلول للمشكلة أكثر من تقديم الحلول نفسها عبر الكثير من الآليات للحكومة الإنتقالية، فالمُطالبات بالحلول بطرقٍ أو بأخرى يتم تداولها بكثافة عبر مواقع التواصل الإجتماعي،
ما يعني أن الجميع يعمل على تبادل الأفكار والخبرات في سبيل الخروج من هذه الضائقة.
إذن؛ ما ذنب السيد رئيس الوزراء ووزير الصحة في حكومته أن يتم نعتهم بالفشل على لسان البعض ممن يريدون النقد من أجل النقد فقط؛ عِلماً بأن هذه الحكومة عمرها 7 أشهر فقط.
فحقيقة الأمر أن المكابرة على كل شيء والإصرار على نقد الحكومة الإنتقالية وتجريمها هي مجرد سطحية،
وفي بعض الأحيان قد تكون إنتهازية من تلك الشرائح التي قررت إخراج الناس للشوارع في تظاهرات رغم التشديد على المطالبة بعدم التجمعات في ظل إنتشار وباء الكورونا.
وسننتظر غداً وسنرى هل ستنتصر السذاجة والإنتهازية أم ستنتصر الإرادة. والمعذرة لرئيس الوزراء ووزير الصحة على الوصف في العنوان أعلاه، فهذا لسان الحال الذي بدأ في الإنتشار في الأيام القليلة الماضية.