لا أعتقد أن هناك من السودانيين من كان يتوهم أن تصبح الحياة في السودان رغدة ووردية بمجرد إنتصار ثورة ديسمبر/كانون الأول، أو بعد عامين أو ثلاثة من تشكيل الحكومة الإنتقالية. فالجميع يعلم أن المأزق المأساوي الذي حشرنا فيه نظام الإنقاذ المباد يحتاج منا إلى زمن طويل حتى نتلمس سبل الخروج. والجميع كان مستعدا لشد الأحزمة على البطون، حتى الخاوية منها وهي الأكثرية الغالبة، لأطول مدة ممكنة شريطة أن يرى البدايات المؤدية إلى الإتجاه الصحيح. ولكن، وللأسف الشديد، لا يبدو أن قادة الفترة الإنتقالية، حكاما وساسة داعمين، قد اكتشفوا، حتى اللحظة، تلك البدايات، بل إشتدت الأزمة وتفاقمت، سياسيا واقتصاديا وأمنيا، ولا تلوح في الأفق أي حلول، وإنما مجرد وعود متكررة ممجوجة، بل وممزوجة بنذر مواجهات لا تحمد عقباها. الجميع يعاني من تجليات الأزمة، سوى في شظف العيش وإنهيار الخدمات، حيث صار الإحتمال الأقرب لأي مريض هو السكون إلى الآلة الحدباء، أو في التعامل مع أولويات الإنتقال بلا مبالاة عجيبة تثير الشكوك، أو في تدني الأداء السياسي وسيادة خطاب الإقصاء والتخوين والعنصرية، أو في الإنفلات الأمني وإزدياد كثافة سحب التوتر، والتخوف من الإنتقال إلى المواجهات الدامية، خاصة والسلاح في كل مكان، وأول الحرب كلام. لن أخوض في تفاصيل هذه التجليات، فالكل مدرك لها، ولكني أود مناقشة ثلاثة نقاط في إتجاه الحلول والمخرج.النقطة الأولى: تحدثنا من قبل عن أهمية التشاور الواسع حول القضايا المصيرية التي تكتنف البلاد. فالمسؤول، أي مسؤول، لن يكتسب المعرفة والمهارة بمجرد جلوسه، وفي الحقيقة إجلاسه، في كرسي السلطة الإنتقالية. صحيح قد يكتسب بعض النفوذ وبعض القوة، ولكنهما بدون المعرفة، أكثر ضررا من فائدتهما. وأعتقد أن الخلل وصل مرحلة لن تجدي معها المحاولات الجارية الآن لتكوين المجالس الاستشارية، ولن يجدي حصر بحثه في مجلس شركاء الفترة الإنتقالية. الوضع يحتاج إلى مبادرة شجاعة من مجلس السيادة ومجلس الوزراء للدعوة لعقد لقاء طاولة مستديرة للتوافق حول خارطة طريق وخطة عمل قابلة للتنفيذ لإنقاذ الوضع وإيقاف تدهوره. وأقترح أن يشارك في هذا اللقاء، إضافة إلى مجلسي السيادة والوزراء، رؤساء كل أحزاب الحرية والتغير بتشظياتها المتعددة، رؤساء قوى سلام جوبا، رؤساء القوى السياسية المؤمنة بالثورة من خارج قوى الحرية والتغيير، تجمع المهنيين، أيضا بمختلف تشظياته، مبادرة وملتقى جامعة الخرطوم، لجان المقاومة، تنظيمات القوى المدنية، أي شخصيات وتنظيمات أخرى منحازة للثورة، وغير ذلك من المكونات التي يمكن التوافق عليها.النقطة الثانية: يرى البعض في الذهاب إلى انتخابات مبكرة مخرجا معقولا وعادلا من الأزمة. كنت سأوافق هذا الطرح إذا ما كانت المفوضيات قد تكونت وأنجزت أعمالها، ليس بالضورة كل المفوضيات، ولكن على الأقل مفوضية السلام، ومفوضية العدالة الإنتقالية، ومفوضية المؤتمر الدستوري وصناعة الدستور، ومفوضية الإنتخابات. أما قبل ذلك فهي دعوة لتجريب المجرب الفاشل، كما إنتهت إليه فترات الإنتقال السابقة، وعمليا تعني نسف الفترة الإنتقالية، ودعوة صريحة، بدون وعي، لإستمرار دوران الحلقة الشريرة..! فجوهر فترات الإنتقال يتمثل في أنها تتيح للجميع، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، التوافق على مشروع يعبّد مداخل وطرق تحقيق حلم كسر الحلقة الشريرة، ويضع السودان على منصة تأسيس جديدة، ترسي دعائم بناء دولة وطنية حداثية.جوهر فترات الإنتقال يتمثل في أنها تتيح للجميع، بمختلف رؤاهم السياسية والفكرية، التوافق على مشروع يعبّد مداخل وطرق تحقيق حلم كسر الحلقة الشريرةوهذه مهمة تاريخية، لا يمكن أن ينجزها حزب الأغلبية أو تحالف فصائل دون آخرين، بقدر ما هي مهمة الشعب بأسره، وتنطلق من فرضية أن الوطن لا يبنى بآيديولوجية هذه الكتلة أو تلك، ولا بمشروع هذا الحزب أو ذاك. ومع ذلك، أقترح أن نعدل في هذه الدعوة وننادي بالبدء فورا في صياغة القوانين والإجراءات اللازمة والضرورية لتنظيم انتخابات المجالس المحلية بمستوياتها المختلفة. فهي يمكن أن تلعب دورا رقابيا، حتى تجاه الحكومة القومية والأجهزة الإنتقالية المختلفة، إضافة إلى تعاملها المباشر مع قضايا المواطن المعيشية. ثم أن الانتخاب إليها سيعتمد كثيرا على معرفة الناخب المباشرة بالمرشح وليس عبر حزبه، وأن الناخبين سيصوتون للمرشح الأقدر على خدمتهم، من وحي التجربة اللصيقة في الحي أو المحلية، غض النظر عن إنتمائه الحزبي. هي بإختصار تمرين أساسي في عملية بناء التحول الديمقراطي من القاعدة إلى أعلى. ومن تجربة أنتخابات المجالس المحلية هذه، يمكن أن تتولد أفكار تساعد في بلورة أي النظم الانتخابية أفضل لبلادنا في ظل الضعف البائن في أحزابنا السياسية المنهكة القوى، وحتى لا نواصل ممارسة الكسل الذهني، فنهرع سريعا لنسخ ولصق التجارب الانتخابية الممارسة والناجحة في بلدان أخرى، كتجربة وستمنستر مثلا، والتي لا تتلاءم مع واقعنا وظل الفشل حليفها، ودائما ما تتم مصادرتها ببديل كارثي.النقطة الثالثة: لابد من إعادة النظر في منهج إدارة الاقتصاد في البلد. فإنقاذ اقتصادنا المنهار يحتاج إلى تضافر جهود كل الخبرات الاقتصادية السودانية، غض النظر عن الإنتماءات أو المواقع التي عملت فيها، فقط وفق معيار الكفاءة والنزاهة، وتجميعها في مجلس اقتصادي قومي يقدم حلولا ملموسة بعد نقاش وتمحيص، بما في ذلك كيفية التعامل مع العون الخارجي. هناك العديد من المقترحات المبعثرة في الوسائط وتستحق الإهتمام. مثلا، يرى الباحث والخبير الإقتصادي، د. محمد عبد القادر سبيل، أن الحل أولا وقبل كل شيء يكمن في السيطرة على سعر صرف العملة، فيقترح أن تحتكر الحكومة بالكامل تصدير خمس سلع نقدية هي: الذهب، المنتجات الحيوانية، الحبوب الزيتية، الصمغ، والقطن. والعائد المتوقع هو 10 مليارات دولار، توظف 5 مليارات منها في استيراد خمس سلع استراتيجية هي: الوقود، القمح، الدواء، المدخلات الزراعية، ومشتريات الحكومة الأساسية كالأجهزة الطبية والآليات وقطع الغيار، والخمسة مليارات دولار المتبقية توجه للبنية التحتية فضلا عن زيادة الانتاج واحلال سلع الصادر.
مقالات ذات صلة
شاهد أيضاً
إغلاق